الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 99 ] [ شبهة وجوابها ]

                          وقال تعالى : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، وقد أشكلت هذه الآية على كثير من الناس وأورد اليهود والنصارى على المسلمين فيها إيرادا وقالوا : كان في شك فأمر أن يسألنا وليس فيها بحمد الله إشكال ، وإنما أتي أشباه الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم وإلا فالآية من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلا ، فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، وقوله : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ، وقوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، وقوله : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ، ونظائره ، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشك ولم يسأل .

                          وفي تفسير سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 100 ] وسلم قال : " لا أشك ولا أسأل " .

                          وقد ذكر ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فإن كنت في شك أنك مكتوب عندهم فاسألهم وهذا اختيار ابن جرير .

                          قال : يقول تعالى لنبيه : فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك ، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن [ ص: 101 ] أبعثك رسولا إلى خلقي لأنهم يجدونك مكتوبا عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتبهم ، فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك .

                          وكذلك قال ابن زيد : قال : هو عبد الله بن سلام [ كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] .

                          وقال الضحاك : سل أهل التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب [ ممن أدرك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ] .

                          [ ص: 102 ] ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصودها وأين كان عبد الله بن سلام وقت نزول هذه الآية ؟ فإن السورة مكية وابن سلام إذ ذاك على دين قومه ، وكيف يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه ؟

                          [ ص: 103 ] وقال كثير من المفسرين : هذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره ; لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب ، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره كما يقول متمثلهم : ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) .

                          وكقوله تعالى : ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، والمراد أتباعه بهذا الخطاب .

                          قال أبو إسحاق : إن الله تعالى يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب شامل للخلق ، والمعنى : وإن كنتم في شك والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة : قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله .

                          [ ص: 104 ] وقال ابن قتيبة : كان الناس في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصنافا منهم كافر به مكذب ، وآخر مؤمن به مصدق ، وآخر شاك في الأمر لا يدري كيف هو ، فهو يقدم رجلا ويؤخر رجلا ، فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس وقال : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسل .

                          قال : ووحد وهو يريد الجمع كما قال : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، و : ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ، و : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه .

                          وهذا - وإن كان له وجه - فسياق الكلام يأباه فتأمله وتأمل قوله تعالى : يقرءون الكتاب من قبلك ، وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ، وقوله : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وهذا كله [ ص: 105 ] خطاب واحد متصل بعضه ببعض .

                          ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجه إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاك ، وكل هذا فرار من توهم ما ليس بموهوم : وهو وقوع الشك منه والسؤال ، وقد بينا أنه لا يلزم إمكان ذلك فضلا عن وقوعه .

                          فإن قيل : فإذا لم يكن واقعا ولا ممكنا فما مقصود الخطاب والمراد به ؟

                          قيل : المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد ، وأنهم مقرون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك ، وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه ، فمن شك في ذلك فليسأل أهل الكتاب ، فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة وأدلها على المقصود ، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشك قط ولم يسأل قط ولا عرض له ما يقتضي ذلك ، وأنت إذا تأملت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته : من شك فليسأل فرسولي لم يشك ولم يسأل .

                          والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية ، وهذه الحكمة منتفية في حق غيرهم ، فيجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية