الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري ، وأبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي ، أجل من صنف في علم التفسير وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير ، وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس ، وخلدا في الأحياء وإن هداني في الرمس ، وكلامهما فيه يدل على تقدمهما في علوم ، من منثور ومنظوم ، ومنقول ومفهوم ، وتقلب في فنون الآداب ، وتمكن من علمي المعاني والإعراب ، وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب الزمخشري ما يدل على أنهما فارسا ميدان [ ص: 10 ] وممارسا فصاحة وبيان . وللزمخشري تصانيف غير تفسيره منها الفائق في لغات الحديث ، ومختلف الأسماء ومؤتلفها ، وربيع الأبرار ، والرائض في الفرائض ، والمفصل وغير ذلك . وقد ذكر الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى ( قلائد العقيان ومحاسن الأعيان ) أبا محمد بن عطية فقال فيه : نبعة روح العلا ، ومحرز ملابس الثنا ، فذ الجلالة ، وواحد العصر والأصالة ، وقار كما رسا الهضب ، وأدب كما اطرد السلسل العذب ، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار ، وطوالعه في آفاقها صبح ونهار ، وقد أثبت من نظمه ما ينفح عبيرا ، ويتضح منيرا ، وأورد له نثرا كما نظم قلائد ، ونظما تزدان بمثله أجياد الولائد ، من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم ، ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم ، أبقت له ذكرا مخلدا على جبين الدهر ، وعرفا أرجا كتضوع الزهر . ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا ، وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا ، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين ، والذهب الإبريز من العين ، ويتيمة الدر من اللآلئ ، وليلة القدر من الليالي ، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما ، وثنوا أعنة الاعتناء إليهما ، وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز ، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز ، ثنيت إليهما عنان الانتقاد ، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد ، أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك ، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك ، وعرضتهما على محك النظر ، وأوريت فيهما نار الفكر حتى خلص دسيسهما وبرز نفيسهما ، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل ، واجتمع فيه إنصاف وعدل ، فإنه يتعجب من التولج على الضراغم ، والتحرز لأشبالها والأنف راغم ، إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير ، وممارسا تحريره والتحبير ، نشراه نشرا ، وطار لهما به ذكرا ، وكانا متعاصرين في الحياة متقاربين في الممات .

( ولد أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري ) بزمخشر قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع عشر لرجب سنة سبع وستين وأربعمائة ، ( وتوفي بكركانج ) قصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة . ( وولد أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرءوف بن عبد الله بن تمام بن عطية المحاربي من أهل غرناطة ) سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وتوفي بلورقة في الخامس والعشرين لرمضان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، هكذا ذكره القاضي ابن أبي جمرة في وفاة ابن عطية ، ( وقال الحافظ أبو القاسم بن بشكوال ) : توفي ، يعني ابن عطية ، سنة اثنين وأربعين وخمسمائة ، وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص ، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص ، إلا أن الزمخشري قائل بالفطرة ومقتصر من الذؤابة على الوفرة ، فربما سنح له آبي المقادة فأعجزه اغتياصه ، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه ، فتركه عقلا لمن يصطاده وغفلا لمن يرتاده ، وربما ناقض هذا المنزع فثنى العنان إلى الواضح والسهل اللائح ، وأجال فيه كلاما ورمى نحو غرضه سهاما ، هذا مع ما في كتابه من نصرة مذهبه ، وتقحم مرتكبه وتجشم حمل كتاب الله - عز وجل - عليه ، ونسبة ذلك إليه ، فمغتفر إساءته لإحسانه ، ومصفوح عن سقطه في بعض لإصابته في أكثر تبيانه ،

التالي السابق


الخدمات العلمية