الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الثالثة

              وهي أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ، ولا القصد إليها ، بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير ، أسبابا كانت أو غير أسباب ، معللة كانت أو غير معللة .

              والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب ، وأنها ليست من مقدور المكلف ، فإذا لم تكن راجعة إليه ، فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم ، وهو السبب ، وما سواه غير لازم ، وهو المطلوب .

              وأيضا ; فإن من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ ، وإلى جهته ميل ، فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب ، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يولي على العمل من طلبه ، والولاية الشرعية كلها مطلوبة ; إما [ ص: 309 ] طلب الوجوب أو الندب ، ولكن راعى عليه السلام في ذلك ما لعله يتسبب عن اعتبار الحظ ، وشأن طلب الحظ في مثل هذا أن ينشأ عنه أمور تكره ، كما سيأتي بحول الله تعالى ، بل قد راعى عليه السلام مثل هذا في المباح ، فقال : ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه الحديث ; فشرط في قبوله عدم إشراف النفس ، فدل على أن أخذه بإشراف على خلاف ذلك ، وتفسيره في الحديث الآخر : من يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه ، ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع ، وأخذه بحقه هو أن لا ينسى [ ص: 310 ] حق الله فيه ، وهو من آثار عدم إشراف النفس ، وأخذه بغير حقه خلاف ذلك ، وبين هذا المعنى الرواية الأخرى : نعم صاحب المسلم هو من أعطى منه المسكين واليتيم ، وابن السبيل أو كما قال : وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة .

              ووجه ثالث ، وهو أن العباد من هذه الأمة ـ ممن يعتبر مثله هاهنا ـ أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن شوائب الحظوظ حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها ، وأسسوها قاعدة بنوا عليها ـ في تعارض الأعمال وتقديم بعضها على بعض ـ أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه أو ما ثقل عليها ، حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس ، وهم الحجة فيما انتحلوا ; لأن إجماعهم إجماع ، وذلك دليل على صحة الإعراض عن المسببات في الأسباب ، وقال عليه السلام إذ سأله جبريل عن الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ; فإنه يراك ، وكل تصرف للعبد [ ص: 311 ] تحت قانون الشرع فهو عبادة ، والذي يعبد الله على المراقبة يعزب عنه ـ إذا تلبس بالعبادة ـ حظ نفسه فيها ، هذا مقتضى العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها ، وهو معنى بينه أهله كالغزالي وغيره .

              فإذا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الالتفات إلى المسببات ، وهذا أيضا جار في الأسباب الممنوعة كما يجري في الأسباب المشروعة ، ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب في جريان الثواب والعقاب ; فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز المسبب عن سببه ، والسبب هو المتضمن له ، فلا يفوته شيء إلا بفوت شرط أو جزء أصلي أو تكميلي في السبب خاصة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية