الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الفصل الثاني

في أنواعه

وهي إما أن يقدم والمعنى عليه ، أو يقدم وهو في المعنى مؤخر ، أو بالعكس .

[ ص: 309 ] النوع الأول

ما قدم والمعنى عليه

ومقتضياته كثيرة ، قد يسر الله منها خمسا وعشرين ، ولله در ابن عبدون في قوله :


سقاك الحيا من مغان سفاح فكم لي بها من معان فصاح

أحدها

السبق

وهو أقسام : منها السبق بالزمان والإيجاد ؛ كقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي ( آل عمران : 68 ) قال ابن عطية : المراد الذين اتبعوه في زمن الفترة .

وقوله : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ( الحج : 75 ) فإن مذهب أهل السنة تفضيل البشر ، وإنما قدم الملك لسبقه في الوجود .

وقوله : ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ( الأحزاب : 59 ) فإن الأزواج أسبق بالزمان ؛ لأن البنات أفضل منهن ؛ لكونهن بضعة منه ، صلى الله عليه وسلم .

وقوله : هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ( الفرقان : 74 ) .

[ ص: 310 ] واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف ؛ كقوله : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران ( آل عمران : 33 ) .

وقوله : ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ( الأحزاب : 7 ) .

وقوله : صحف إبراهيم وموسى ( الأعلى : 19 ) .

وأما قوله : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ( النجم : 36 - 37 ) فإنما قدم ذكر موسى لوجهين :

أحدهما : أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك ، وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم .

وثانيهما : مراعاة رءوس الآي .

وقد ينضم إليه التحقير كما في قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( الفاتحة : 7 ) تقدم اليهود ؛ لأنهم كانوا أسبق من النصارى ، ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة .

وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ( العنكبوت : 38 ) وقوله : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى ( النجم : 50 - 51 ) .

ومن التقديم بالإيجاد تقديم السنة على النوم في قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم ، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة .

ذكره السهيلي ، وذكر معه وجها آخر ، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء ، وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه ، فبدئ بالأفضل ؛ لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم .

[ ص: 311 ] ومنه تقديم الظلمة على النور في قوله تعالى : وجعل الظلمات والنور ( الأنعام : 1 ) فإن الظلمات سابقة على النور في الإحساس ، وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي ، قال تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ( النحل : 78 ) فانتفاء العلم ظلمة ، وهو متقدم بالزمان على نور الإدراكات .

ومنه تقديم الليل على النهار وجعلنا الليل والنهار آيتين ( الإسراء : 12 ) سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ( سبأ : 18 ) بل مكر الليل والنهار ( سبأ : 33 ) حين تمسون وحين تصبحون ( الروم : 17 ) ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام ؛ وإن كانت الليالي مؤنثة والأيام مذكرة وقاعدتهم تغليب المذكر إلا في التاريخ .

فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ( يس : 40 ) .

قلت : استشكل الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في " قواعده " ذلك بالإجماع على سبق الليلة على اليوم ، وأجاب بأن المعنى : تدرك القمر في سلطانه وهو الليل ، أي : لا تجيء الشمس في أثناء الليل ، فقوله بعده : ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ( يس : 40 ) أي : لا يأتي الليل في بعض سلطان الشمس وهو النهار ، وبين الجملتين مقابلة .

فإن قيل : قوله تعالى : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ( الحديد : 6 ) مشكل على هذا ؛ لأن الإيلاج إدخال الشيء في الشيء ، وهذا البحث ينافيه .

قلت : المشهور في معنى الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار ، ومن النهار في الصيف مقدارا من الليل ، وتقدير الكلام : يولج بعض مقدار الليل في النهار ، وبعض مقدار النهار في الليل ، وعلى غير المشهور يجعل الليل في المكان الذي كان فيه [ ص: 312 ] النهار ، ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل ، والتقدير : يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار في مكان الليل .

ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله : خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ( الأنعام : 1 ) أي : الليل والنهار ، وقوله : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 32 - 33 ) .

وهذه مسألة مهمة قل من تعرض لها ، أعني سبق المكان على الزمان ، وقد صرح بها الإمام أبو جعفر الطبري في أول تاريخه ، واحتج على ذلك بحديث ابن عباس : إن الله خلق التربة يوم السبت ، وخلق الشمس والقمر ، وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار ، إذ كانا إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر درج الفلك ، وإذا كان ذلك صحيحا وأنه لا شمس ولا قمر ، كان معلوما أنه لا ليل ولا نهار . قال : وحديث أبي هريرة - يعني في صحيح مسلم - صريح فيه ؛ فإن فيه : وخلق الله النور يوم الأربعاء قال : ويعني به الشمس ، إن شاء الله .

والحاصل أن تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم .

فإن قلت : الحديث كالمصرح بخلافه ، فإنه قال : خلق الله التربة يوم السبت ، حين خلق البرية ، وهي أول المخلوقات المذكورة ، فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلها متأخرا عن ذلك .

قلت : قد نبه الطبري على جواب ذلك بما حاصله أن الله تعالى سمى أسماء الأيام قبل خلق التربة ، وخلق الأيام كلها ثم قدر كل يوم مقدارا ، فخلق التربة في مقدار يوم [ ص: 313 ] السبت قبل خلقه يوم السبت ، وكذا الباقي .

وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري ؛ من أنه يتعين تأخير خلق الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين .

والحاصل أن الزمان قسمان : تحقيقي وتقديري ؛ والمذكور في الحديث التقديري .

ومنه قوله تعالى : رب المشرقين ورب المغربين ( الرحمن : 17 ) مشارق الأرض ومغاربها ( الأعراف : 137 ) ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقط فقال : ورب المشارق ( الصافات : 5 ) إنا زينا السماء الدنيا ( الصافات : 6 ) .

ومنه قوله تعالى : الذي خلق الموت والحياة ( الملك : 2 ) وقوله : وأنه هو أمات وأحيا ( النجم : 44 ) وكنتم أمواتا فأحياكم ( البقرة : 28 ) .

ويمكن فيه وجوه أخر :

منها أن فيه قهرا للخلق ، والمقام يقتضيه .

ومنها أن حياة الإنسان كلا حياة ، ومآله إلى الموت ، ولا حياة إلا بعد الموت .

ومنها أن الموت تقدم في الوجود ؛ إذ الإنسان قبل نفخ الروح فيه كان ميتا لعدم الروح ، وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود ، بدليل : وكنتم أمواتا فأحياكم ( البقرة : 28 ) وإن أريد به بعد الوجود ، فالناس متنازعون في الموت : هل هو أمر وجودي كالحياة أو لا ؟

وقيل بالوقف ، فقالت الفلاسفة : الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا .

والجمهور على أنه أمر وجودي يضاد الحياة ، محتجين بقوله : الذي خلق الموت والحياة ( الملك : 2 ) [ ص: 314 ] والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه .

وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير ، ولا يجب في المقدر أن يكون وجوديا ، وعن الثاني بأن ذلك على طريق التمثيل ؛ لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود .

فإن قلنا : عدمي ، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة ، وعلى الصحيح تقابل التضاد ، وعلى القول بأنه وجودي ، يجب أن يقال : تقديم الموت الذي هو عدم الوجود لكونه سابقا أو معدوم الحياة الذي هو مفارقة الروح البدني يجوز أن يكون لكونه الغاية التي يساق إليها الإنسان في دار الدنيا ، فهي العلة الغائبة بعدم تحقيقها لتحققه ؛ فخص العلة العامة كما وقع تأكيده في قوله : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( المؤمنون : 15 ) أو تزهيدا في الدار الفانية ، وترغيبا فيما بعد الموت .

فإن قيل فما وجه تقدم " الحياة " في قوله : قال فيها تحيون وفيها تموتون ( الأعراف : 25 ) وقوله : ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( الأنعام : 162 ) .

قلنا : إن كان الخطاب لآدم وحواء فلأن حياتهما في الدنيا سبقت الموت ، وإن كان للخلق بالخطاب لمن هو حي يعقبه الموت ، فما التقديم بالترتيب ، وكذا الآية بعده .

[ ص: 315 ] فإن قيل : فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكر البعث في قوله : وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ( الجاثية : 24 ) فإن التقدير نحيا ونموت . قلت : لأجل مناسبة رءوس الآي .

فإن قلت : فما وجه تقدم التوفي على الرفع في قوله : إني متوفيك ورافعك إلي ( آل عمران : 60 ) مع أن الرفع سابق .

قيل : فيه جوابان :

أحدهما : المراد التوفي في النوم ، كقوله تعالى : يتوفاكم بالليل ( الأنعام : 60 ) .

وثانيهما : أن التاء في " متوفيك " زائدة ؛ أي : موفيك عملك .

ومنها : سبق إنزال ، كقوله تعالى : وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان ( آل عمران : 3 - 4 ) وقوله : الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ( الأعراف : 157 ) .

وأما قوله : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ( آل عمران : 199 ) فإنما قدم القرآن منبها له على فضيلة المنزل إليهم .

ومنها سبق وجوب ، كقوله تعالى : اركعوا واسجدوا ( الحج : 77 ) وقوله : تراهم ركعا سجدا ( الفتح : 29 ) .

فإن قيل : فقد قال : واسجدي واركعي مع الراكعين ( آل عمران : 43 ) .

قيل : يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع ، ويحتمل أن يراد بالركوع ركوع الركعة الثانية .

[ ص: 316 ] وقيل : المراد بـ " اركعي " اشكري .

وقيل : أراد بـ " اسجدي " صلي وحدك ، وبـ " اركعي " صلي في جماعة ، ولذلك قال : مع الراكعين ( آل عمران : 43 ) .

ومنها سبق تنزيه ؛ كقوله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ( البقرة : 285 ) فبدأ بالرسول قبل المؤمنين ، ثم قال : كل آمن بالله وملائكته ( البقرة : 285 ) فبدأ بالإيمان بالله ؛ لأنه قد يحصل بدليل العقل ، والعقل سابق في الوجود على الشرع ، ثم قال : " وملائكته " ؛ مراعاة لإيمان الرسول ، فإنه يتعلق بالملك الذي هو جبريل أولا ، ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل ، ثم بمعرفة نفسه أنه رسول . وإنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه به ، فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك ، فظهرت الحكمة والإعجاز ، فقال : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ( البقرة : 285 ) لأن الملك هو النازل بالكتاب ، وإن كان الكتاب أقدم من الملك ، ولكن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للملك كانت قبل سماعه الكتاب ، وأما إيماننا نحن بالعقل ، آمنا بالله ؛ أي : بوجوده ، ولكن الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - عرفنا اسمه ووجوب النظر المؤدي إلى معرفته ، فآمنا بالرسول ، ثم بالكتاب المنزل عليه ، وبالملك النازل به ، فلو ترتب اللفظ على حسب إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب ، ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - الذي هو إمام المؤمنين . ذكره السهيلي في " أماليه " .

وقال غيره : في هذا الترتيب سر لطيف ؛ وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كله مضاف إلى الله تعالى ، والوسائط في ذلك الملائكة ، والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل ، فلا بد أولا : من أصل ، وثانيا : من وسائط ، وثالثا : من حصول تلك الرحمة ، ورابعا : من وصولها إلى المقابل لها ، والأصل المقتضي للخيرات والرحمة هو الله ، ومن أعظم رحمة رحم بها عباده إنزال كتبه إليهم ، والموصل لها هم الملائكة ، والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء ، فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع .

التالي السابق


الخدمات العلمية