الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 233 ] باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة

                                                                                                                                            قال الله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] ، وفي ذلك دليل أنه أراد الأحرار : لأن الملك لهم ، ولا يحل من الإماء إلا مسلمة ، ولا تحل حتى يجتمع شرطان : أن لا يجد طول حرة ، ويخاف العنت إن لم ينكحها ، والعنت الزنا ، واحتج بأن جابر بن عبد الله قال : من وجد صداق امرأة فلا يتزوج أمة ، قال طاوس : لا يحل نكاح الحر الأمة ، وهو يجد صداق الحرة ، وقال عمرو بن دينار : لا يحل نكاح الإماء اليوم : لأنه يجد طولا إلى الحرة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد مضى الكلام في نكاح الحرائر من المسلمات والكتابيات إذا نكحن الأحرار والعبيد ، فأما نكاح الإماء فله حالان :

                                                                                                                                            أحدهما : مع العبد .

                                                                                                                                            والثاني : مع الحر .

                                                                                                                                            فأما العبد في نكاح الإماء ، فله أن ينكحهن كما ينكح الحرائر من غير شرط زائد ، والكلام فيه يأتي مع ذكر ما فيه من خلاف .

                                                                                                                                            وأما الحر ، فحكمه في نكاح الأمة مخالف لحكمه في نكاح الحرة ، فلا يجوز أن ينكحها إلا بثلاث شرائط تعتبر فيه ، وشرط رابع يعتبر في الأمة ، فأما الشرط المعتبر في الأمة الإسلام ، ويأتي الكلام فيه .

                                                                                                                                            وأما الثلاث شرائط المعتبرة في الحر :

                                                                                                                                            أحدها : أن لا يكون تحته حرة .

                                                                                                                                            والثاني : أن لا يجد طولا لحرة .

                                                                                                                                            والثالث : أن يخاف العنت إن لم ينكح أمة ، والعنت الزنا ، فإذا استكمل هذه الشروط الثلاثة حل له نكاح أمة ، وإن أخل شرط منها لم يحل له نكاحها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يعتبر في نكاح الأمة شرط واحد ، وهو أن لا يكون تحته حرة ، ولا يعتبر عدم الطول وخوف العنت .

                                                                                                                                            وقال مالك : يعتبر فيه عدم الطول وخوف العنت ، ولا يعتبر فيه ألا تكون تحته حرة .

                                                                                                                                            وقال سفيان الثوري : يعتبر فيه خوف العنت وحده .

                                                                                                                                            [ ص: 234 ] وقال آخرون : لا يعتبر فيه شيء من هذه الشرائط ، ويكون نكاحها كنكاح الحرة .

                                                                                                                                            فأما أبو حنيفة فاستدل على أن عدم الطول وخوف العنت غير معتبرين بعموم قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء فكان على عمومه في نكاح ما طاب في الحرائر والإماء ، ثم قال في آخر الآية : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ النساء : 3 ] يعني فنكاح واحدة من الحرائر أو نكاح واحدة مما ملكت أيمانكم ، فكان هذا نصا ، فصار أول الآية دليلا من طريق العموم ، وآخرها دليلا من طريق النص ، واستدل أيضا بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم [ البقرة : 221 ] وقد ثبت أن له أن يتزوج الكتابية الحرة من غير شرط ، فالأمة المؤمنة هي التي خير منها أولى أن يجوز نكاحها .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه ليس تحته حرة ، فجاز له نكاح الأمة كالعادم للطول والخائف للعنت ، ولأن كل من حل له نكاح الأمة إذا خشي العنت حل له نكاحها ، وإن أمن العنت كالعبد : ولأن كل من حل له نكاحها إذا لم يجد طولا حل نكاحها ، وإن وجد طولا كالحرة ، ولأن كل نقص لم يمنع من النكاح إذا لم يقدر على سليم منه لم يمنع من النكاح ، وإن قدر على سليم منه قياسا على نكاح الكافرة مع القدرة على مسلمة ، ولأن وجود نكاح الأخت يمنع من نكاح أختها ووجود مهرها لا يمنع : كذلك وجود الحرة يمنع من نكاح الأمة ووجود مهرها لا يمنع .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله : ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم [ النساء : 25 ] فأباح نكاح الأمة بشرطين : أحدهما : عدم الطول .

                                                                                                                                            والثاني : خوف العنت .

                                                                                                                                            فأما الطول : فهو المال والقدرة مأخوذ من الطول : لأنه ينال به معالي الأمور ، كما ينال الطول معالي الأشياء .

                                                                                                                                            وأما العنت ففيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه الزنا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه الحد الذي يصيبه من الزنا .

                                                                                                                                            فلما جعل الإباحة مقيدة بهذين الشرطين لم يصح نكاحهما إلا بهما .

                                                                                                                                            فإن قالوا : هذا الاحتجاج بدليل الخطاب ، وهو عندنا غير حجة ، فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه دليل خطاب عندنا حجة ، فجاز أن يكون من دلائلنا على أصولنا .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه شرط علق به الحكم : لأن لفظة " من " موضعه للشرط ، ويكون [ ص: 235 ] تقديره : من لم يجد طولا وخاف العنت نكح الأمة ، والحكم إذا علق بشرطين انتفى بعدم ذلك الشرطين ، وتعذر أحدهما .

                                                                                                                                            فإن قالوا فقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات محمول على الوطء : لأن حقيقة النكاح هو الوطء ، ويكون تقديره : ومن لم يستطع منكم طولا وطء حرة لعدمها تحته حل له نكاح أمة ، وكذا يقول ، فعن هذا ثلاثة أجوبة :

                                                                                                                                            أحدها : أن النكاح عندنا حقيقة في العقد دون الوطء . وهكذا كل موضع ذكر لله تعالى النكاح في كتابه ، فالمراد به العقد دون الوطء ، وكذلك هاهنا .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن الطول بالمال معتبر في العقد دون الوطء ، فكان حمل النكاح على العقد الذي يعتبر فيه الطول أولى من حمله على الوطء الذي لا يعتبر فيه الطول أولى .

                                                                                                                                            والجواب الثالث : أن حمله على الوطء يسقط اشتراط العنت ، وحمله على العقد لا يسقطه ، فكان حمله على العقد الذي يجمع فيه بين شرطيه أولى من حمله على الوطء الذي يسقط أحد شرطيه .

                                                                                                                                            فإن قالوا : فيحمل قوله : فمن ما ملكت أيمانكم [ النساء : 25 ] على وطئها بملك اليمين لا بعقد النكاح ، فالجواب عن هذا أن في سياق الآية ما يدل على بطلان هذا التأويل من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : قوله : ومن لم يستطع منكم طولا [ النساء : 25 ] وليس عدم الطول شرطا في وطء الأمة بملك اليمين .

                                                                                                                                            والثاني : قوله : فانكحوهن بإذن أهلهن [ النساء : 25 ] وليس يراعى في وطئه بملك يمينه إذن أحد .

                                                                                                                                            والثالث : وليس خوف العنت شرطا في وطئها بملك اليمين ، فبطل هذا التأويل ، وصح الاستدلال بالآية .

                                                                                                                                            ومن طريق الإجماع أنه مروي عن ابن عباس ، وجابر :

                                                                                                                                            أما ابن عباس ، فروى عنه البراء وطاوس ، أنه قال : من ملك ثلاثمائة درهم ، وجب عليه الحج ، وحرم عليه الإماء .

                                                                                                                                            وأما جابر ، فروى عنه أبو الزبير ، أنه قال : من وجد صداق حرة فلا ينكح أمة .

                                                                                                                                            وليس يعرف لقول هذين الصحابيين مع انتشاره في الصحابة مخالف ، فكان إجماعا لا يجوز خلافه . ومن طريق القياس : أنه مستغن عن نكاح أمة ، فلم يجز له نكاحها قياسا على من تحته حرة ، وإن شئت أن تقول : منعن عن استرقاق ولده قياسا على هذا الأصل ، وتقول حرة من العنت قادر على وطء حرة قياسا على هذا الأصل ، أو تقول حرا من العنت قياسا على هذا الأصل فتعلله بما شئت من أحد هذه الأوصاف الأربعة ، والوصف الأخير أشدها ، ولأن من قدر على قيمة المبدل الكامل كان كمن قدر عليه في تحريم الانتقال إلى المبدل الناقص كالانتقال في الطهارة من الماء إلى التراب ، وفي الكفارة من الرقية إلى الصيام : ولأنه لو [ ص: 236 ] جمع في العقد الواحد بين حرة وأمة ، يبطل نكاح الأمة ، فكذلك إذا أفردها بالعقد مع قدرته على الحرة .

                                                                                                                                            وتحريره : أن كل امرأتين لو جمع بينهما في العقد بطل نكاح إحداهما ، ووجب إذا أفردت بالعقد أن تبطل نكاحها كالأخت مع الأجنبية وكالمعتدة مع الخلية ، ولأن من تحته حرة هو ممنوع من نكاح أمة ، وليس يخلو حال منعه من أربعة أقسام : إما أن يكون : لأن تحته امرأة حرة ، وإما أن يكون : لأنه جامع بين حرة وأمة ، وإما أن يكون : لأنه قادر على نكاح حرة ، وإما أن يكون لأنه قادر على نكاح حرة ، وإما أن يكون : لأنه قد أمن العنت ، فبطل أن يكون المنع : لأن تحته حرة : لأنه لو عقد على حرة وأمة بطل نكاح الأمة ، وإن لم يكن تحته حرة ، وبطل أن يكون المنع : لأنه جامع بين حرة وأمة : لأنه لو نكح أمة جاز أن ينكح بعدها حرة ، فيصير جامعا بين أمة وحرة ، وإذا بطل هذان القسمان صار عليه المنع هو القسمان الآخران وهو القدرة على نكاح حرة ، وأنه أمن من العنت فصار وجود هذين علة في التحريم وعدمها علة في التحليل .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] فهو أن استدلالهم فيها بالعموم متروك بما ذكرناه من النص في التخصيص ، واستدلالهم منها بالنص باطل : لأنه تعالى قال : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ النساء : 3 ] ، فكان هذا تخييرا بين العقد على حرة ، وبين وطء الإماء بملك اليمين ، ولم يكن تخييرا بين العقد على حرة والعقد على أمة : لأن الله تعالى لم يشرط في ملك اليمين عددا ، فوجب أن يكون محمولا على ما شرط فيه العدد من التسري بهن دون ما يشترط فيه العدد من عقد النكاح عليهن .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بقوله تعالى : ولأمة مؤمنة خير من مشركة [ البقرة : 221 ] فالمراد بالمشركة هاهنا الوثنية دون الكتابية : لأن الله تعالى قد فصل بينهما : وإن جاز أن يعمهما اسم الشرك ، فقال : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة [ البينة : 1 ] وقال تعالى : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم [ البينة : 6 ] وإذا كان المراد بهما الوثنية فنكاح الأمة المؤمنة خير من نكاحها : لأنها قد تحل إذا وجد شرط الإباحة ، والوثنية لا تحل بحال .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على العادم للطول ، والخائف للعنت ، بعلة أنه ليس تحته حرة ، فمنتقض بمن تحته أربع : إما لا يجوز له عنده أن ينكح أمة ، وإن لم يكن تحته حرة ثم المعنى في الأصل : أن العادم للطول عاجز عن الحرة ، والواجد قادر ، فلا يجوز أن يقاس القادر على البذل على العاجز عنه ، كالواجد لثمن الرقبة في الكفارة لا يجوز أن يقاس على العادم لثمنها .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على العبد ، فالمعنى فيه : أنه لا عار على العبد في استرقاق ولده ، فجاز أن لا يعتبر فيه خوف العنت ، وعلى الحر عار في استرقاق ولده ، فاعتبرت ضرورته لخوف العنت .

                                                                                                                                            [ ص: 237 ] وأما قياسهم على نكاح الحرة ، فالمعنى في الحرة : أنه لما جاز نكاحها على حرة جاز نكاحها على وجود الطول ، ولما لم يجز نكاح الأمة على الحرة لم يجز نكاحها مع وجود الطول ، وكذلك الجواب عن قياسهم على نكاح الكتابية والكافرة أنه يجوز نكاحها ، وإن كانت تحته مسلمة ، ولا يجوز نكاح الأمة إذا كان تحته حرة .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن القدرة على مهر الأخت لا يمنع من نكاح أختها ، فكذلك القدرة على مهر الحرة لا يمنع من نكاح الأمة فخطأ : لأن المحرم في الأختين هو الجمع بينهما في العقد ، وهذا الجمع غير موجود في القدرة على المهر ، كما لم يمنع القدرة على مهور أربع من العقد على خامسة ، ويمنع وجود الأربع تحته أن يعقد على خامسة ، وليس كذلك الأمة : لأنها حرمت للقدرة على حرة ، ولأنه يحرم الجمع بينهما وبين حرة ، ألا ترى أنه لو نكح حرة بعد أمة جاز : وقد جمع بين حرة وأمة ، وإذا كان تحريمها للقدرة على حرة كان بوجود مهر الحرة قادرا على حرة فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية