الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

هذه الآية عامة في جميع الكفرة؛ قديمهم وحديثهم؛ وقرأ ابن كثير ؛ وعاصم ؛ وابن عامر : "لا تفتح"؛ بضم التاء الأولى؛ وتشديد الثانية؛ وقرأ أبو عمرو : "تفتح"؛ بضم التاء؛ وسكون الفاء؛ وتخفيف الثانية؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائي : "يفتح"؛ بالياء من أسفل؛ وتخفيف التاء؛ وقرأ أبو حيوة؛ وأبو إبراهيم "يفتح"؛ بالياء؛ وفتح الفاء؛ وشد التاء؛ ومعنى الآية: "لا يرتفع لهم عمل؛ ولا روح؛ ولا دعاء"؛ فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين بالله تعالى ؛ قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره.

وذكر الطبري في كيفية قبض روح المؤمن؛ والكافر آثارا؛ اختصرتها؛ إذ ليست بلازمة في الآية؛ وللين أسانيدها أيضا.

[ ص: 563 ] ثم نفى الله - عز وجل - عنهم دخول الجنة؛ وعلق كونه بكون محال؛ لا يكون؛ وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة؛ حيث يدخل الخيط؛ والجمل كما عهد؛ والسم كما عهد.

وقرأ جمهور المسلمين: "الجمل"؛ واحد الجمال؛ وقال الحسن: هو الجمل الذي يقوم بالمربد؛ ومرة لما أكثروا عليه قال: هو الأشتر ؛ وهو "الجمل"؛ بالفارسية؛ ومرة قال: هو الجمل ولد الناقة؛ وقاله ابن مسعود .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه عبارة تدل على حرج السائل؛ لارتياب السائلين لا شك باللفظة؛ من أجل القراءات المختلفة؛ وذكر الطبري عن مجاهد ؛ عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: "حتى يلج الجمل الأصفر"؛ وقرأ أبو السمال: "الجمل"؛ بسكون الميم؛ وقرأ ابن عباس ؛ وعكرمة ؛ ومجاهد ؛ وابن جبير ؛ والشعبي ؛ ومالك بن الشخير؛ وأبو رجاء : "الجمل"؛ بضم الجيم؛ وتشديد الميم؛ وهو حبل السفينة؛ وقرأ سالم الأفطس؛ وابن خير؛ وابن عامر أيضا: "الجمل"؛ بتخفيف الميم؛ من "الجمل"؛ وقالوا: هو حبل السفن؛ وروى الكسائي أن الذي روى تثقيل الميم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان أعجميا؛ فشدد الميم؛ لعجمته.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف؛ لكثرة أصحاب ابن عباس - رضي الله عنهما - على القراءة المذكورة؛ وقرأ سعيد بن جبير ؛ فيما روي عنه: "الجمل"؛ بضم الجيم؛ وسكون الميم؛ وقرأ ابن عباس أيضا: "الجمل"؛ بضم الجيم؛ والميم.

و"السم": الثقب من الإبرة وغيرها؛ يقال "سم"؛ و"سم"؛ بفتح السين؛ وكسرها؛ وضمها؛ وقرأ الجمهور بفتح السين؛ وقرأ ابن سيرين بضمها؛ وقرأ أبو حيوة بضمها وبكسرها؛ وروي عنه الوجهان؛ و"الخياط"؛ و"المخيط": الإبرة؛ وقرأ ابن مسعود : [ ص: 564 ] "في سم المخيط"؛ بكسر الميم؛ وسكون الخاء؛ وفتح الياء؛ وقرأ طلحة : "في سم المخيط"؛ بفتح الميم؛ وكذلك أبي على هذه الصفة؛ وبمثل هذا الحتم وغيره يجزى الكفرة؛ وأهل الجرائم على الله - تبارك وتعالى.

وقوله تعالى لهم من جهنم مهاد ؛ المعنى أن جهنم فراش لهم؛ ومسكن؛ ومضجع يتمهدونه؛ وهي لهم غواش؛ جمع "غاشية"؛ وهي ما يغشي الإنسان؛ أي يغطيه ويستره من جهة فوق؛ قال الضحاك : "المهاد": الفراش؛ و"الغواشي": اللحف؛ ودخل التنوين في "غواش"؛ عند سيبويه لنقصانه عن بناء "مفاعل"؛ فلما زال البناء المانع من الصرف بأن حذفت الياء حذفا؛ لا للالتقاء؛ بل كما حذفت من قوله تعالى والليل إذا يسر ؛ و ذلك ما كنا نبغ ؛ ومن قول الشاعر:


...................... ............ ثم لا يفر



زال الامتناع؛ وهذا كقولهم: "ذلذل"؛ بالتنوين؛ وهم يريدون "الذلاذل"؛ لما زال البناء؛ قال الزجاج : والتنوين في "غواش"؛ عند سيبويه ؛ عوض من الياء المنقوصة؛ ورد أبو علي أن يكون هذا هو مذهب سيبويه ؛ ويجوز الوقوف بياء؛ وبغير ياء؛ والاختيار بغير ياء.

وقوله تعالى والذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ الآية؛ هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة؛ ولهم الخلد فيها؛ ثم اعترض أثناء القول بعقب الصفة؛ التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط ويرجي في رحمة الله تعالى ؛ ويعلم أن دينه يسر.

وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شيء لا يطاق؛ وقد تقدم القول [ ص: 565 ] في جواز تكليف ما لا يطاق؛ وفي وقوعه؛ بمغن عن الإعادة.

و"الوسع"؛ معناه: الطاقة؛ وهو القدر الذي يتسع له قدر البشر.

التالي السابق


الخدمات العلمية