الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا

                                                          * * *

                                                          في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم [ ص: 1829 ] ذكر سبحانه وتعالى ما سهل به على المسافر من قصر الصلاة. وفي هذا النص الكريم بين سبحانه حال الصلاة إذا كان المسافر في حال جهاد، وهو ما يسمى في عرف الفقهاء بصلاة الخوف، أي الصلاة التي تكون في حال الخوف من العدو، بأن يكونوا في حال حرب معه. فالمراد بالخوف هو الحذر من مباغتة العدو. ولذا قال سبحانه:

                                                          وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم هذا النص الكريم فيه بيان الصلاة حال القتال، بأن يجمع المؤمنون بين الصلاة التي بها تطهير القلوب من كل الأدناس والأرجاس وبين الاستعداد للقاء العدو، والحذر منه.

                                                          ومعنى النص السامي: إذا كنت أيها الرسول في المؤمنين، فأردت إقامة الصلاة على وجهها في هذا المقام، فلتقم طائفة منهم معك، بأن تبتدئ بالصلاة معها، على أن يكون معها السلاح، وهي في حال الصلاة، حتى يكونوا على أهبة القتال دائما. وحمل السلاح في الصلاة لا يبطلها، ولا يؤثر في حال الخشوع، وخصوصا إذا كان حمل السلاح لإعلاء كلمة الله تعالى وخفض الباطل، فهو عبادة من أعظم العبادات، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم المؤمنين المجاهدين صفين، صفا يبتدئ بالصلاة معه، فإذا سجدوا للصلاة وقد ألقوا وجوههم على الأرض، لا يرون شيئا ولا يستحضرون إلا عظمة الله تعالى، فإن الصف الثاني يكون من وراء هؤلاء، يدفع عنهم أذى الكفار، والاعتداء على أهل الحق والإيمان، وهذا معنى قوله تعالى: فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم أي فليكن الصف الآخر، أو الطائفة الأخرى من ورائكم، حامية لظهوركم، مانعة نزول الأذى بكم، ومن بعد ذلك تجيء الطائفة الحارسة، وتكون من بعد ذلك في محل المصلية، وتذهب الأخرى حارسة، وهذا قوله تعالى: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم [ ص: 1830 ] أي إذا صلت الطائفة الأولى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينه صلاته، جاءت الأخرى فصلى بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أمر الله بأن تكون معها أسلحتها، وشدد في الأمر بأن أمرها مع ذلك بأخذ الحذر والاحتراس، وقدم الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة; لأن أخذ الأسلحة من الحذر، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف واجب، خشية أن يباغتهم العدو، وهم يغيرون صفوفهم; لأن هذا يشبه التغيير في الخطط وقت القتال، وهو لا يخلو من خطورة يجب معها الحذر، ولأن الطائفة الأولى عند سجودها، عسى أن يتنبه العدو لحالها فيطمع، وخصوصا إذا رأى الصفوف تتغير، وتتحرك في داخل الجيش نفسه.

                                                          اتفق الفقهاء على أن صلاة الخوف تقتضي أن يصلي النبي -صلى الله عليه وسلم- بطائفة، ثم يصلي بالأخرى التي تكون أمام العدو ابتداء، وتحل الأولى محلها، ولكن اختلفوا بعد ذلك في كيفية صلاة الخوف تبعا لما فهموا من اختلاف الروايات في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وها هي ذي الروايات ومن اختاروها:

                                                          الرواية الأولى: رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها أبو داود والدارقطني ، وخلاصتها أن الصلاة في هذه الحال ركعتان إن كانت رباعية، ويقسم النبي المجاهدين إلى صفين: أحدهما يصلي به ركعة، ثم يقوم، حتى تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بها الركعة الثانية، حيث تكون الأولى في مواجهة العدو، ثم يسلم، وتأتي الأولى فتتم صلاتها بغير قراءة، لأنها كما يعبر الحنفية لاحقة، أي كأنها وراء الإمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة وراء الإمام، فإذا أتمت جاءت الثانية فصلت بقراءة، لأنها تكون مسبوقة، إذ تكون كمن أدرك آخر صلاة الإمام وفاتته ركعة، فتكون القراءة واجبة. وبهذه الرواية أخذ أبو حنيفة وأصحابه.

                                                          الرواية الثانية: هي ما رواه الإمام مالك في موطئه، أن صلاة الخوف أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ولا يسلم، وتتم هي الصلاة وحدها، فإذا أتمتها جاءت الأخرى، فصلى الإمام معها الركعة الأخرى وسلم، وهم يتمون الركعة، وبذلك تقل الحركات عن الرواية الأولى. وبهذه الرواية أخذ الإمام مالك ، وروي [ ص: 1831 ] أن الإمام لا يسلم إلا بعد أن تنتهي الثانية من صلاتها، وبهذا أخذ الشافعي رضي الله عنه، واختاره أحمد ، وإن كان يجوز غيره، كما سنبين موقفه من هذه الروايات.

                                                          الرواية الثالثة: أن الرسول صلى بالطائفة ركعة، وبها تتم صلاتها، ثم قام حتى تجيء الثانية، فصلى بها الركعة الثانية، وسلم، وبها تتم صلاتها فتكون صلاة الخوف على هذه الرواية ركعة واحدة بالنسبة للمأموم، وركعتين للإمام، وبهذا أخذ بعض الفقهاء.

                                                          الرواية الرابعة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين بالأولى ولم يسلم، وذهبت، وجاءت الثانية فصلى بها اثنتين أخريين، ثم سلم معها. وفي رواية أنه سلم بينهما، فسلم مع الأولى، وسلم مع الثانية. وقد اختار بعض الفقهاء هذه الرواية الأخيرة.

                                                          ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل ، وهو عالم السنة الأول في عصره: "لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه، إن شاء الله".

                                                          وإن كل هذه الروايات تتفق مع النص الكريم، واختلاف الرواية الصحيحة يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها بكل هذه الوجوه المختلفة، لبيان أنها جائزة بكل وجه من هذه الوجوه.

                                                          وبعض العلماء قالوا: إن صلاة الخوف خاصة بما إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المجاهدين، أي أنها خاصة بعصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبشرط أن يكون هو قائد الجند، وحجتهم في ذلك أن الخطاب خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ يقول: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فالكيفية مقيدة بشرط، وهو إقامته فيهم، وليست كل التكليفات التي يوجه فيها الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، على أن يكون موجها لكل الأمة، مشروطا فيها هذا الشرط، فالتكليف مقيد بالشرط، وليس بمطلق، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه عليه الصلاة والسلام. وقال الجمهور: أمرنا باتباعه، [ ص: 1832 ] والتأسي به في كثير من الأحاديث وآيات القرآن الكريم، وقال -صلى الله عليه وسلم- "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وإن كثيرا من المطالب التكليفية يكون الخطاب فيها للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم لأمته، وإن الصحابة جميعا فهموا عموم الرخصة في صلاة الخوف، فعدوها إلى كل إمام في الجيش، وهو أعلم بمقاصد الإسلام; لأنهم تلقوا علمهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الإمام القائم بالجهاد هو خليفة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ولأن المعنى في صلاة الخوف لا يتحقق فقط مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بل يتحقق مع كل أمير جهاد، ولأن صلاة الخوف هي من نوع الحذر، والجمع بين المضي في القتال، والمضي في الصلاة التي هي عماد الدين، والحذر مطلوب دائما، وقد بين الله سببها فقال: ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم

                                                          هذا، ولا بد من التنبيه لأمرين: أحدهما: صلاة المغرب، فقد كانت الصلاة التي تكلم فيها الفقهاء هي الصلاة الثنائية بالأصالة، وهي الفجر، أو الثنائية بالقصر، وهي صلاة الظهر والعصر، والعشاء. وأما المغرب فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها روايتان: إحداهما أنه صلى بالطائفة الأولى ثلاثا، وبالثانية مثلها، وبهذه الرواية أخذ الحسن البصري . والرواية الثانية أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية واحدة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك . وروي أن الشافعي قال: يصلي بالأولى واحدة، وبالثانية اثنتين.

                                                          الأمر الثاني: أنه لا يلزم الاتجاه إلى القبلة إذا خيف أن يأخذ العدو المؤمنين على غرة، وذلك في حال الالتحام الشديد، وإذا خيف فوات الوقت يصلي متى أمكن له أن يصلي، وبذلك قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وقال غيرهم: يصلون بالإيماء، ولا يتركون الوقت.

                                                          والسبب في شرعية صلاة الخوف هو الحذر، والخوف من المباغتة، ولذا كرر الله الأمر بأخذ الأسلحة والحذر، وبين ما يوده الكفار فقال: ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة [ ص: 1833 ] في هذا النص الكريم إشارة إلى السبب في صلاة الخوف، وهو ترقب العدو لحال المسلمين، عساهم يجدون منفذا ينفذون منه إلى صفوفهم، أو ثغرة يدخلون منها، أو غفلة ينتهزونها، فكان الحذر أن تسد عليهم كل المنافذ التي ينفذون منها لتحقيق مآربهم، فلا يصح للمسلمين أن يغفلوا بالعبادة عن الجهاد، ولا يتركوا العبادة.

                                                          ومعنى: ود الذين كفروا تمنى الذين كفروا، وهم أعداؤكم الذين نصبوا راية العداوة لكم، أن تأخذكم الغفلة عن أسلحتكم التي بها شوكتكم وقوتكم، وعن أمتعتكم التي فيها زادكم وبها تستمرون على القتال من غير أن يصيبكم جوع أو عري. وأنهم يريدون هذه الغفلة ليميلوا بقوتهم وكلكلهم عليكم، فيكونوا ثقلاء الوطأة، ويضربونكم الضربة القاصمة الفاصلة، فيما يتوهمون ويزعمون! وهذا معنى قوله سبحانه: فيميلون عليكم ميلة واحدة أي يثقلون الوطأة عليكم ويضربونكم الضربة المستأصلة في زعمهم ووهمهم!!.

                                                          وفي هذه النصوص كلها نجد الأمر المتكرر بوجوب أخذ الأهبة دائما، وحمل السلاح باستمرار. ولكن قد يتعسر حمل السلاح، وهنا يرخص في عدم حمله، مع أخذ الحذر، بحيث يكون في مكان قريب، كي يعمل عند أول صيحة، ولذا قال سبحانه:

                                                          ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم لا إثم عليكم في أن تضعوا أسلحتكم في أغمدتها، إذا كان في الميدان مطر شديد يعوق استعمالها ولقاء الأعداء، فإنها إن لم توضع تعرضت للصدأ، ووراء ذلك تلفها، والاحتياط لسلامتها في الميدان واجب، وكذلك من يكون به مرض يغمد سلاحه حتى يستطيع استعماله، فإن تركه من غير استعمال يفسده، فلا يصلح عند وجوبه، وقوله تعالى: أو كنتم مرضى الخطاب للجميع، ويراد به البعض من وجه; لأنه يبعد أن يكون جميع الجيش مريضا، فالله تعالى يرخص للمريض في أن يدع القتال حتى يشفى، فليس على المريض [ ص: 1834 ] حرج، وهو خطاب للجميع من جهة أخرى; إذ على الجماعة أن توفر للمريض راحته، فتغنيه عن حمل السلاح وهو مريض، وتحمل هي عنه العبء.

                                                          ومع أنه لا إثم في وضع السلاح عند المطر المعوق الذي يعد أذى، ولا يعد غيثا، والترخيص للمريض في غمد سلاحه، فلا بد من الحذر، فيترقبون من العدو دائما انتهازه للفرصة، ومن ذلك أن يتقلدوا السيوف، ولو أنها في أغمدتها، ووضع الرقباء، وبث العيون على العدو ليعرفوا حاله، فعسى أنه يحاول الهجوم من ثغرة أو طريق سهلة عليه، وإن ذلك لأن الله تعالى يريد أن تعلو كلمة الإيمان في الدنيا، وتنخفض كلمة الكفر، ولذا قال سبحانه:

                                                          إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا أي أن الله أعد للجاحدين به وبالحق عذابا مذلا لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة بالعذاب الشديد الذي لا نجاة منه، وفي الدنيا بالغلب عليهم، وإذهاب صولتهم، ودولتهم، وذلك يكون بأخذ الأهبة والحذر، والاعتماد على الله تعالى، وقد أكد سبحانه العذاب المهين الذي ينزل بهم في الآخرة بثلاثة مؤكدات: بحرف (إن) ، وبأن الله تعالى هو الذي ينزله، وما أراده الله تعالى لا بد واقع، وبالتعبير بكلمة (أعد) ، فإنها تفيد أنه هيئ لهم فعلا، وهو يستقبلهم، وهم صائرون إليه لا محالة.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية