الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 31 ] ثم فيه مسائل : الأولى : المعتبر في الإجماع قول أهل الاجتهاد ، لا الصبيان والمجانين قطعا ، وكذا العامي المكلف على الأكثر ، خلافا للقاضي أبي بكر لتناول الأمة والمؤمنين له ، وجواز أن العصمة للكل المجموعي .

                لنا : غير مستند إلى دليل ، فقوله جهل لا يعتبر ، ولأنه إذا خالف فاعتبار القولين وإلغاؤهما وتقديم قوله باطل ، فتعين الرابع ، وخص من الأمة بدليل كالصبي ، ويعتبر في إجماع كل فن قول أهله ، إذ غيرهم بالإضافة إليه عامة .

                التالي السابق


                قوله : " ثم فيه " أي : في الإجماع " مسائل " يعني أن ما مضى من الكلام في حده وجوازه ، وكونه حجة ، هو كالكليات لباب الإجماع ، وهذه المسائل كالجزئيات له :

                المسألة " الأولى : المعتبر في الإجماع قول أهل الاجتهاد ، لا الصبيان والمجانين قطعا ، وكذا العامي المكلف على الأكثر ، خلافا للقاضي أبي بكر " .

                اعلم أن كل واحد من الأمة ، إما أن يكون من أهل الاجتهاد ، أو لا ، فإن كان ، فموافقته في الإجماع معتبرة قطعا بغير خلاف ، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد ، فهو إما غير مكلف ، كالصبي والمجنون ، فلا تعتبر موافقته قطعا ، أو يكون مكلفا كالعامة ، ويلحق بهم طلبة الفقهاء الذين لم يبلغوا رتبة النظر والاستدلال الاجتهادي ، فهؤلاء لا يعتبر قولهم عند الأكثرين من الأصوليين ، والفقهاء الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، خلافا للقاضي أبي بكر حيث قال : أعتبر [ ص: 32 ] موافقة العامي ، وهو اختيار الآمدي .

                قوله : " لتناول الأمة " إلى آخره . هذه حجة القاضي على اعتبار العامي ، وهي من وجهين :

                أحدهما : أن الإجماع إنما كان حجة للدليل السمعي على عصمة الأمة ، وإيجابه اتباع سبيل المؤمنين كما سبق ، ولفظ الأمة والمؤمنين يتناول العامي ، فيجب أن يكون قوله معتبرا .

                الوجه الثاني : " أن العصمة " جاز أن تكون ثابتة للمجتهدين خاصة ، كما يقول الخصم ، وجاز أن تكون ثابتة " للكل المجموعي " والهيئة الاجتماعية من المجتهدين وغيرهم ، لكن الأخذ بهذا أحوط للأحكام الشرعية ، فكان واجبا . وتخصيص هذا الدليل بالصبيان والمجانين إجماعا لا يوجب تخصيصه بالعامة ، لقيام الفرق بينهم من وجهين :

                أحدهما : التكليف في العامي المكلف دون الصبي والمجنون .

                والثاني : العامي إذا فهم الحكم ودليله قد يفهمه ، وقد يخطر له رأي أو مشورة .

                وبالجملة هو أكمل ممن ليس بمكلف .

                فإن قيل : التكليف المجرد عن أهلية النظر لا تأثير له في الاجتهاد ، فلا يكون فارقا بين العامي وبين الصبي والمجنون .

                قلنا : بل يتجه كونه فارقا بينهما ، لجواز أن تكون عصمة الأمة فائضة [ ص: 33 ] منصبة عليها من العصمة النبوية ، فيصيب العامي المكلف منها بقسطه ، لتأهله للعبادات في الحال ، إذ العبادة وأهليتها بركة وتأثير ، بخلاف غير المكلف الذي هو في الحال كالبهيمة .

                قوله : " لنا : غير مستند إلى دليل " إلى آخره . هذه حجة الجمهور على عدم اعتبار قول العامي ، وهي من وجهين :

                أحدهما : أن قول العامي غير مستند إلى دليل ، وإلا لم يكن عاميا ، وما ليس مستندا إلى دليل ، يكون جهلا وخطأ ، لأن الشرع حرم القول بغير علم ، والجهل والخطأ غير معتبر .

                الوجه الثاني : أن العامي إذا خالف أهل الاجتهاد ، فقال بالنفي ، وقالوا بالإثبات أو بالعكس ، فإما أن يعتبر قولاهما ، فيجتمع النقيضان ، أو يلغى قولاهما فيرتفع النقيضان ، وتخلو الواقعة عن حكم ، أو يقدم قول العامي ، فيفضي إلى تقديم ما لا مستند له على ما له مستند ، والكل " باطل فتعين الرابع " وهو تقديم قول المجتهد عليه ، وهو المطلوب ، فإن قدر أن العامي وافق المجتهد في الرأي ، كان التأثير لرأي المجتهد دون رأي العامي ، لقيام الدليل المذكور على أنه إذا خالف ، لم يعتبر به .

                قوله : " وخص من الأمة بدليل كالصبي " . هذا جواب عن احتجاج [ ص: 34 ] القاضي بتناول لفظ الأمة والمؤمنين له ، وهو عموم دليل الإجماع السمعي .

                وجوابه : أن العامي خص من عموم الأمة بدليل خاص ، كما خص الصبي والمجنون بدليل ، والجامع بينهما عدم أهلية النظر ، والفرق بينهما بالتكليف ، والفهم بالتفهيم لا أثر له .

                أما التكليف ، فلو اعتبر في العامي ، لاعتبر في الصبي والمجنون ، لأنه موجود فيهما بالقوة ، إذ هما أهل له بتقدير زوال المانع ، ولا أثر لكونه موجودا في العامي بالفعل ، إذ معنى التكليف إلزام فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، وذلك لا أثر له في النظر والاجتهاد . وانصباب العصمة النبوية على الأمة يقتضي مشاركة الصبي والمجنون للعامي وغيره في الاعتبار .

                وأما فهم العامي بالتفهيم ، فلا فائدة له ، إذ المعتبر من يفهم بقوته ليفيد وينبه الناس على ما ليس عندهم ، لا من يكون كلا على العلماء يقول :

                افهموا وفهموني . وأيضا ما أقبح وأسمج أن يقال في محفل الإجماع والاجتهاد : انتظروا الإمام الفاضل المجتهد فلانا ، والفلاح أو المكاري فلانا ، أو المقامر فلانا ، وبمثل هذا يندفع قول من يقول : فلان العامي وإن لم يكن من أهل الاستدلال ، لكن لا يمتنع أن يعتبر الاستدلال من أهله ، ويكون من ليس أهلا له كالعامي شرطا في العصمة التي هي مستند [ ص: 35 ] الاحتجاج بالإجماع ، إذ يبعد من حكمة الشرع أن يجعل نفوذ قول المجتهدين موقوفا على قول العامة ، مع قوله - سبحانه وتعالى - لهم : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] ، إذ كيف يأمرهم بسؤال العلماء ، ثم يجعلهم كالأمراء عليهم ، لا ينفذ قولهم إلا بموافقتهم ; هذا بعيد جدا ، مناف للحكمة ، منافر لها ، على أن قولهم : يجوز أن تكون العصمة للكل المجموعي . ضعيف جدا ، إذ لا يفهم من عصمة جاهل لا يدري ما يقول ، وأيضا اعتبار قول العامة في الإجماع يعود ببطلان الإجماع ، لكثرة العامة ، وتعذر الوقوف على قول كل واحد منهم ، بخلاف المجتهدين ، فإنهم لقلتهم لا يتعذر ذلك فيهم ، والله أعلم .

                قال القرافي : قال القاضي عبد الوهاب : وقيل : يعتبر العوام في الإجماع العام ، كتحريم الطلاق ، والربا ، والزنى ، وشرب الخمر ، دون الإجماع الخاص الحاصل في دقائق الفقه .

                قلت أنا : هذا أقرب من إطلاق القاضي أبي بكر اعتبار قولهم مع أن هذا ضعيف ، لأن الإجماع العام يحتاج إلى أهلية النظر ، والعامي ليس أهلا له فإن أحيل اعتبار قوله في الإجماع العام على العصمة للأمة الإسلامية ; كما قال القاضي أبو بكر ; وجب طرد ذلك ، حتى في دقائق الفقه وغيرها ، إذ ذلك يكون اعتمادا على تأييد إلهي ، على نحو التأييد لبعض الأنبياء بروح القدس ، والله أعلم .

                [ ص: 36 ] قوله : و " يعتبر في إجماع كل فن قول أهله " كالفقيه في الفقه ، والأصولي في الأصول ، والنحوي في النحو ، والطبيب في الطب " إذ غيرهم " أي : غير أهل ذلك الفن " بالإضافة " إلى ذلك الفن " عامة " .

                وذلك أن العامي لفظ منسوب إلى العامة ، والعامة مشتق من العموم ، وهو الكثرة ، ولا شك أن العلماء بكل فن من فنون العلم قليل بالنسبة إلى من لا يعلمه ، ومن لا يعلمه أكثر ممن يعلمه بكثير ، فهم عامة بالنسبة إلى العلماء بهذا الاعتبار ، فالفقيه الذي لا يعرف العربية ، أو الأصول بالنسبة إلى النحاة والأصوليين ، كالفلاح والمكاري بالنسبة إلى الفقهاء ، فإن اتفق من يعرف فنونا ، كالفقه ، والأصول ، والعربية ونحوها ، اعتبر قوله في الإجماع في كل فن منها ، من حيث إنه عالم بذلك الفن ، لا من جهة غيره ، والله أعلم .

                وعلى قول القاضي أبي بكر ينبغي أن يعتبر في الإجماع في فن إجماع أهل سائر الفنون ، لأن أسوأ أحوالهم أن يكونوا كالعامة وهو يعتبر قولهم ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية