الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمرهم بالإيمان والإنفاق، وكان الإيمان مع كونه الأساس الذي لا يصح عمل بدونه ليس فيه شيء من خسران أو نقصان، فبدأ به لذلك، ورغب بختم الآية بالإشارة بالرأفة إلى أن [من] توصل [ ص: 267 ] إليه بشيء من الإيمان أو غيره زاده من فضله "من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا - إلى قوله: ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" عطف عليه الترغيب في التوصل إليه بالإنفاق منكرا على من تركه موبخا لمن حاد عنه وهو يعلم أنه فان، مفهما بزيادة "أن" المصدرية اللوم على تركه في جميع الأزمنة الثلاثة فقال: وما أي وأي شيء يحصل لكم في ألا تنفقوا أي توجدوا الإخراج للمال في سبيل الله أي في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لتكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما بخل [به] أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شر، وأظهر موضع الإضمار في جملة حالية باعثا على الإنفاق بأبلغ بعث فقال: ولله تأكيدا للعظمة بالندب إلى ذلك باستحضار جميع صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث ميراث [أي] الإرث والموروث والموروث عنه وغير ذلك السماوات والأرض جميعا لا شيء فيهما أو منهما إلا هو كذلك يزول عن المنتفع به ويبقى لله بقاء الإرث، ومن تأمل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه، ويد طوارق الحوادث مطبقة به، وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره [ ص: 268 ] هان عليه الجود بنفسه وماله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما رغبهم في الإنفاق على الإطلاق، رغبهم في المبادرة إليه، مادحا أهله خاصا منهم أهل السباق فقال: لا يستوي ولما كان المراد أهل الإسلام بين بقوله: منكم من أنفق أي أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه. ولما كان المقصود الإنفاق في زمان الإيمان لا مطلق الزمان، خص بالجار فقال: من قبل الفتح أي الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سببا لظهور الدين [على الدين] كله لما نال المنفق إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وذلك مستلزم لكون المنفق أنفذ بصيرة ونفقته أعظم غنى وأشد نفعا، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه فإنه أول من أنفق ولم يسبقه في ذلك أحد، وفيه نزلت الآية - كما حكاه البغوي عن الكلبي.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المراد بالإيمان خدمة الرحمن، وكان الإنفاق وإن كان مصدقا للإيمان لا يكمل تصديقه إلا ببذل النفس قال: وقاتل أي سعيا في إنفاق نفسه لمن آمن به، وحذف المنفي للتسوية به وهو [من] لم ينفق مطلقا أو بقيد القبلية لدلالة ما بعده، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة السابقين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان نفي المساواة لا يعرف منها الفاضل من غيره، وقد كان [ ص: 269 ] حذف قسيم من أنفق لوضوحه والتنفير منه ودلالة ما بعده عليه، نفى اللبس بقوله: أولئك أي المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، المقربون من أهل الرتبة العلية لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال أعظم درجة وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها من الذين أنفقوا ولما كان المراد التفضيل على من أوجد الإنفاق والقتال [في زمان بعد ذلك، لا على من استغرق كل زمان بعده بالإنفاق والقتال] أدخل الجار فقال: من بعد وقاتلوا ولما كان التفضيل مفهما اشتراك الكل في الفضل، صرح به ترغيبا في الإنفاق على كل حال فقال: وكلا أي من القسمين وعد الله [أي] الذي له الجلال والكمال والإكرام الحسنى أي الدرجة التي هي غاية الحسن وإن كانت في نفسها متفاوتة، وقرأ ابن عامر " وكل " وهو أوفق لما عطف عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات، وكان التفضيل مناط العلم، قال مرغبا في إحسان النيات مرهبا من التقصير فيها: والله أي الذي له الإحاطة الشاملة بجميع صفات الكمال، وقدم الجار إعلاما بمزيد اعتناء بالتمييز عند التفضيل فقال: بما تعملون أي تجددون عمله على مر الأوقات خبير أي عالم بباطنه وظاهره علما لا مزيد [ ص: 270 ] عليه بوجه، فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية