الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إنه هو يبدئ ويعيد ( 13 ) وهو الغفور الودود ( 14 ) ذو العرش المجيد ( 15 ) فعال لما يريد ( 16 ) هل أتاك حديث الجنود ( 17 ) فرعون وثمود ( 18 ) ) .

اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( إنه هو يبدئ ويعيد ) فقال بعضهم : معنى ذلك : إن الله أبدى خلقه ، فهو يبتدئ ، بمعنى : يحدث خلقه ابتداء ، ثم يميتهم ، ثم يعيدهم أحياء بعد مماتهم ، كهيئتهم قبل مماتهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يبدئ ويعيد ) يعني : الخلق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يبدئ ويعيد ) قال : يبدئ الخلق حين خلقه ، ويعيده يوم القيامة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه هو يبدئ العذاب ويعيده .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( إنه هو يبدئ ويعيد ) قال : يبدئ العذاب ويعيده .

وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب ، وأشبههما بظاهر ما دل عليه التنزيل القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أنه يبدئ العذاب لأهل الكفر به ويعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) في الدنيا ، فأبدأ ذلك لهم في الدنيا ، وهو يعيده لهم في الآخرة .

وإنما قلت : هذا أولى التأويلين بالصواب ; لأن الله أتبع ذلك قوله : ( إن بطش ربك لشديد ) فكان للبيان عن معنى شدة بطشه الذي قد ذكره قبله ، أشبه به بالبيان [ ص: 346 ] عما لم يجر له ذكر ، ومما يؤيد ما قلنا من ذلك وضوحا وصحة ، قوله : ( وهو الغفور الودود ) فبين ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدة عقابه .

وقوله : ( وهو الغفور الودود ) يقول تعالى ذكره : وهو ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه ، وذو المحبة له .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( الغفور الودود ) يقول : الحبيب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( الغفور الودود ) قال : الرحيم .

وقوله : ( ذو العرش المجيد ) يقول تعالى ذكره : ذو العرش الكريم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ذو العرش المجيد ) يقول : الكريم .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( المجيد ) فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة وبعض الكوفيين رفعا ، ردا على قوله : ( ذو العرش ) على أنه من صفة الله تعالى ذكره . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة خفضا ، على أنه من صفة العرش .

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقوله : ( فعال لما يريد ) يقول : هو غفار لذنوب من شاء من عباده إذا تاب وأناب منها ، معاقب من أصر عليها وأقام ، لا يمنعه مانع ، من فعل أراد أن يفعله ، ولا يحول بينه وبين ذلك حائل ؛ لأن له ملك السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم .

وقوله : ( هل أتاك حديث الجنود ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هل جاءك يا محمد حديث الجنود الذين تجندوا على الله ورسوله بأذاهم ومكروههم; يقول : قد أتاك ذلك وعلمته ، فاصبر لأذى قومك إياك لما نالوك به من [ ص: 347 ] مكروه كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي ، ولا يثنيك عن تبليغهم رسالتي ، كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء ، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عطب وهلاك ، كالذي كان من هؤلاء الجنود ، ثم بين جل ثناؤه عن الجنود من هم ، فقال : ( فرعون وثمود ) يقول : ( فرعون ) ، فاجتزى بذكره ، إذ كان رئيس جنده من ذكر جنده وأتباعه . وإنما معنى الكلام : هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وقومه وثمود ، وخفض فرعون ردا على الجنود ، على الترجمة عنهم ، وإنما فتح ؛ لأنه لا يجرى وثمود .

التالي السابق


الخدمات العلمية