الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة، بين ثمرة أعماله بقوله: لكيلا أي أعلمناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، لأن الحزن لا يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن" لأجل أن لا تأسوا أي تحزنوا حزنا كبيرا زائدا على [ما] في أصل الجبلة، يوصل إلى المبلغ بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها [ ص: 296 ] السخط وعدم الرضا بالقضاء، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم ما فاتكم من المحبوبات الدنيوية ولا تفرحوا أي تسروا سرورا يوصل إلى البطر بالتمادي مع [ما] في أصل الجبلة بما آتاكم أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو بالقصر، وأعطاكم [الله] على قراءة الباقين بالمد، وهي تدل على أن النعم لا بد في إيجادها وإبقائها من حافظ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من ذاته إلا العدم، وقد بين سبحانه أن في تقديره هذا وكتبه من السر أن من وطن نفسه على فقد ما لديه من أعيان ومعان قبل أن تأمره بالعدم والوجدان، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح حتى يلهي عن الشكر، لا أصل المعنى لأنه ليس من الأفعال الاختيارية، قال جعفر الصادق: ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك الموت - انتهى، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيدهم، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله ، وذلك بأن يقول في المصيبة: قدر [الله] وما شاء الله فعل ويصير في النعمة هكذا قضى، وما أدري ما مثله

                                                                                                                                                                                                                                      هذا من فضل [ ص: 297 ] ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال [خائفا] عند النقمة راجيا أثر النعمة، قائلا في الحالين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسرورا بذكر ربه له في كلتي الحالتين كما قال [القائل]:


                                                                                                                                                                                                                                      سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا



                                                                                                                                                                                                                                      وهذه صفة المتحررين من رق النفس، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة، فمن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته، أشار إليه القشيري. ولما كان الإمعان في استجلاب الأسى إنما هو من اليأس ونسيان النعم وزيادة الفرح الموصل إلى المرح إنما يجره الكبر والمرح، وكان في أوصاف أهل الدنيا التفاخر، قال تعالى مبينا أن المنهي عنه سابقا التمادي مع الجبلة في الحزن والفرح، عاطفا على ما تقديره: " فإن الله لا يحب كل يئوس كفور " والله لا يحب أي لا يفعل فعل المحب بأن يكرم كل مختال أي متكبر نظر إلى ما في يده في الدنيا فخور قال القشيري: الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر [من] رؤية خطر ما به يفتخر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية