الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من مقاصد هذه السورة العظمى الإعلام بنسخ الشرائع كلها بشريعة هذا النبي الفاتح العام الرسالة لجميع الخلائق صلى الله عليه وسلم، قال مشيرا إلى عظمة الإرسال والرسل بأداة التراخي: [ ص: 305 ] ثم قفينا أي بما لنا من العظمة تقفية لها من العظمة ما يجل وصفه على آثارهم أي الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل، ولا يعود الضمير على " الذرية " لأنها باقية مع الرسل وبعدهم برسلنا أي فأرسلناهم واحدا في أثر واحد بين ما لا يحصى من الخلق من الكفرة محروسين منهم في الأغلب بما تقتضيه العظمة، لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه،[ فكل رسول بين يدي الذي بعده، والذين بعده في قفاه -] فهو مقف له لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له، فنبينا صلى الله عليه وسلم أعرق الناس في هذا الوصف لأنه لا نبي بعده، ولهذا كان الوصف أحد أسمائه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان عيسى عليه السلام أعظم من جاء بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فهو الناسخ لشريعته والمؤيد به هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في تجديد دينه وتقرير شريعته، وكان الزهد والرأفة والرحمة في تابعيه في غاية الظهور مع أن ذلك لم يمنعهم من القسوة المنبهة سابقا على أن الموجب لها طول الأمد الناشئ عنها الإعراض عن الآيات الحاضرة معه والكتاب الباقي بعده، خصه بالذكر وأعاد العامل فقال: وقفينا أي أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تدرس بعيسى ابن مريم وهو آخر من قبل النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام، فأمته أول الأمم بالأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم وآتيناه بما لنا من العظمة [ ص: 306 ] الإنجيل كتابا ضابطا لما جاء به مقيما لملته مبينا للقيامة مبشرا بالنبي العربي موضحا لأمره مكثرا من ذكره وجعلنا لعزتنا في قلوب الذين اتبعوه أي بغاية جهدهم، فكانوا على مناهجه رأفة أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم ورحمة أي رقة وعطفا على من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين، وترتيب الوصفين هكذا أدل دليل على أنهما لم يقصد بهما مراعاة الفواصل في " رءوف رحيم " كما قاله بعض المفسرين وتقدم في آخر براءة أن ذلك قول لا يحل التصويب إليه ولا التعويل عليه وإن قاله من قال ورهبانية أي أمورا حاملة على الرهبية والتزيي بزيها والعمل على حسبها مبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما قدم المعمول لفعل غير مذكور ليدل عليه بما يفسره ليكون مذكورا مرتين تأكيدا له إفهاما لذم نفس الابتداع، أتبعه المفسر لعامله فقال: ابتدعوها أي حملوا أنفسهم على عملها والتطويق بها من غير أن يكون لهم فيها سلف يعلمونه أو يكون بما صرح به كتابه وإن كانت مقاصده لا تأباها فاعتزلوا لأجلها الناس، وانقطعوا في الجبال [ ص: 307 ] على الاستئناس، وكانت لهم [بذلك] أخبار شائعة في النواحي والأمصار، وفي التقديم على العامل سر آخر وهو الصلاحية للعطف على ما قبلها لئلا يتوهم في لفظ الابتداع أن لا صنع لله فيها ما كتبناها أي فرضناها [بعظمتنا] عليهم في كتابهم ولا [على] لسان رسولهم إلا أي [لكن] ابتدعوها ابتغاء أي لأجل تكليفهم أنفسهم الوقوع بغاية الاجتهاد في تصفية القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأعمال على رضوان الله أي الرضا العظيم من الملك الأعظم، وساق المنقطع مساق المتصل إشارة إلى أنه مما يرضي الله، وأنه ما ترك فرضها عليهم إلا رحمة لهم لأجل صعوبتها، وأنه صيرها بعد إلزامهم بها كالمكتوبة، فيكون التقدير حينئذ: إلا لأجل أن يبتغوا رضوانه على وجه الثبات والدوام، قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن [عبد] الحكم المصري في كتابه "فتوح مصر والمغرب" : فلما أن أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده كما حدثنا هانئ بن المتوكل عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن تبيع قال: استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة لموسى عليه السلام في الرجوع إلى أهله وماله بمصر فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا مع رؤوس الجبال، فكانوا أول من [ ص: 308 ] ترهب، وكان يقال لهم الشيعة، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله عز وجل، ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما تسبب عن صعوبتها أنهم أضاعوها بالتقصير عن شؤونها والسفول عن عليائها قال: فما رعوها أي حفظوها كلهم بحفظ من هو مرتاع من خوف ضياعها حق رعايتها بصون العناية في رعاية الأعمال والأحوال والأقوال، فصون الأعمال توفيرها لتحقيرها من غير التفات إليها، ورعاية الأحوال عند الاجتهاد من أتاه والحال دعوى، ورعاية الوقت الوقوف مع حضور على بساط شهود الجلال - ذكره الرازي. بل غلبت عليهم صفات البشر فقصر بعضهم عن عالي مداها، وانحطوا عن شامخ ذراها، هذا تنفير عظيم عن البدع، وحث شديد على لزوم ما سنه الله وشرع، وتحذير من التشديد، فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه وهو الترحال إلى البدعة ولهذا أكثر في أهل الرهبانية المروق من الدين بالاتحاد والحلول وغير ذلك من البلايا ولو كان يظهر أن التشدد والتعمق خير لأن الشارع الذي أحاط علما بما لم يحط به نهى عنه، وقد أفادت التجربة أنه قد يغر لأن هؤلاء ابتدعوا ما أرادوا الخير، فكان داعيا لكثير منهم إلى دار البوار، وفيه أيضا حث عظيم على المداومة على ما اعتيد من الأعمال الصالحة خصوصا، ما عمل النبي صلى الله عليه وسلم عملا إلا داوم عليه، وكان ينهى [ ص: 309 ] عن التعمق في الدين، ويأمر بالرفق والقصد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت متابعة النفس في التقصير بالإفراط قد توصل إلى المروق من الدين فيوجب الكفر فيحط على الهلاك كله، أشار إلى ذلك بقوله: فآتينا أي بما لنا من صفات الكمال الذين آمنوا أي استمروا على الإيمان الكامل، ولعل في التعبير بالماضي بعد إرادة التعميم للأدنى والأعلى إشارة إلى أن المتعمق بين إيمان وكفر لا تجرد معصيته كما أشار إليه ختم الآية فهو في غاية الذم للتعمق والمدح للاقتصاد منهم أي من هؤلاء المبتدعين لأنهم رعوها حق رعايتها ووصلوا إيمانهم بعيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إليه الخروج عن النفس الذي هو روح الرهبانية بموافقتهم لما في كتابهم من البشائر به أجرهم أي اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت متابعة الأهواء تكسب صفات ذميمة تصير ملكات راسخة للأنفس، أشار إلى ذلك بالعدول عن النهج الأول فقال: وكثير منهم أي هؤلاء الذين ابتدعوا فضيعوا فاسقون أي عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدها الله تعالى، روى البغوي [ ص: 310 ] من طريق الثعلبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آمن بي فقد رعاها [حق رعايتها]، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" - انتهى. ومثل هذه الرهبانية في أنها لا تأباها قواعد الدين ما يفهمه بعض العلماء من الكتاب والسنة فيتذكره، فيكون أخذنا له من الأصول التي نبه عليها لا منه، كما أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم [كانوا] يفعلون أشياء فإن قررهم النبي صلى الله عليه وسلم كانت شرعا لنا وكنا آخذين لها من تفسيره صلى الله عليه وسلم لا منهم، فإن من ملكه الله رتبة الاجتهاد في شيء وأمكنه فيه من القواعد فأداه اجتهاده إلى أن هذا مندوب إليه مرغوب فيه مثلا، كان ذلك بما يشهد له من قواعد الدين بمنزلة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين أن يقرره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بقواعد شريعته، ومهما كان مقررا بقواعد شرعه كان عليه أمره، ومهما لم يكن مقررا بها كان مما ليس عليه أمره فهو رد على قائله، فهذا فرق بين البدع الحسنة والبدع القبيحة - والله الموفق، وذكر ابن برجان تنزيل هذا الحديث الذي فيه "لتتبعن سنن من كان قبلكم" فذكر أن أصحاب عيسى عليه السلام عملوا بعده بالإنجيل حتى قام فيهم ملك بدل كتابهم، وشايعه على ذلك روم ويونان، فضعف أهل الإيمان، فاستذلوهم حتى هربوا إلى البراري، وعملوا الصوامع [ ص: 311 ] وابتدعوا الرهبانية، وكذلك كان في هذه لتصديق الحديث الشريف فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه خلفاؤه بإحسان، فلما مضت الخلافة الراشدة تراكمت الفتن كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الإيمان، ورجم البيت العتيق بحجارة المنجنيق وهدم، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما واستبيحت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقتل خيار من فيها فرأى المسلمون العزلة واجبة، فلزموا الزوايا والمساجد وابتنوا الروابط على سواحل البحر وأخذوا في الجهاد للعدو والنفوس، وعالجوا تصفية أخلاقهم ولزموا الفقر أخذا من أحوال أهل الصفة، وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع والصدق والمنازل والأحوال والمقامات فهؤلاء وزان أولئك - والله الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر ما في الإنجيل من الحكم التي توجب الزهد في الدنيا والإقبال على الله التي يصح تمسك أهل هذه الرهبانية بها: قال متى وغيره وأغلب السياق لمتى: إن أخطأ عليك أخوك فاذهب أعتبه وحدكما، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك [فخذ معك-] واحدا أو اثنين، لأن من فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة، وإن لم يسمع [ ص: 312 ] منهم فقل للبيعة، فإن لم يسمع من البيعة فيكون عندك كالوثني والعشار، الحق أقول لكم، وقال لوقا: انظروا [الآن] إن أخطأ إليك أخوك فانهه، فإن تاب فاغفر له، فإن أخطأ إليك سبع دفعات في اليوم ورجع إليك سبع دفعات يقول لك: أنا تائب، فاغفر له، وقال متى: حينئذ جاء إليه بطرس وقال له: إذا أخطأ إلي أخي لم أغفر له سبع مرات، قال: ليس أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة، ولهذا يشبه ملكوت السماوات ملكا أراد أن يحاسب عبيده، فلما بدأ بمحاسبتهم قدم إليه عبد مديون عليه جملة وزنات، ولم يكن معه ما يوفي، فأمر سيده أن تباع امرأته وبنوه وكل ما له حتى يوفي، فخر ذلك العبد [له] ساجدا قائلا: يا رب، ترأف علي تأن، أوفك كل مالك، فتحنن عليه سيده وترك له كل ما عليه، فخرج ذلك العبد فوجد عبدا من أصدقائه عليه مائة دينار فأمسكه وخنقه وقال: أعطني ما عليك، فخر ذلك العبد على رجليه وطلب [إليه] قائلا: ترأف علي فأنا أعطيك مالك، فأبى ومضى وتركه في السجن حتى يوفي الدين، فرأى العبد أصحابه فحزنوا عليه [جدا] وأعلموا سيده بكل ما كان منه، حينئذ دعاه سيده وقال له: أيها العبد الشرير! كل ما كان عليك تركت بذلك لأنك سألتني، ما كان ينبغي لك أن ترحم ذلك العبد صاحبك كرحمتي [ ص: 313 ] إياك، وغضب سيده ودفعه إلى المعذبين حتى يوفي جميع ما عليه، هكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لم تغفروا لإخوانكم سيئاتهم من كل قلوبكم، فلما أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم يهود عبر الأردن فتبعه جمع كثير فأبرأهم هناك، قال لوقا: فلما أكمل أيام صعوده أقبل بوجهه إلى يروشليم، وأرسل مخبرين قدام وجهه فمضوا ودخلوا قرية السامرة، لكيما يعدوا له فلم يقبلوه فقال تلميذاه يعقوب ويوحنا: يا رب تريد أن نقول فتنزل عليهم نار من السماء فتهلكهم كما فعل إليا، فالتفت فنهرهما قائلا: لستما تعرفان أي روح أنتما، إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس بل يحيي، ومضى إلى قرية أخرى، وقال متى: حينئذ قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ويباركهم فنهرهم التلاميذ فقال لهم يسوع: دعوا الصبيان ولا تمنعوهم أن يأتوا إلي لأن ملكوت السماوات لمثل هؤلاء، ووضع يده عليهم وبارك لهم، وقال مرقس: الحق أقول لكم، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها، واحتضنهم ووضع يده عليهم وباركهم، وقال متى: ومضى من هناك وجاء إليه واحد وقال: يا معلم صالح - وقال مرقس: أيها المعلم الصالح - ما أعمل من [ ص: 314 ] الصلاح لأرث الحياة الدائمة، قال له: لماذا تقول: صالح، ولا صالح إلا الله الواحد، إن كنت تريد أن تدخل الحياة احفظ الوصايا، قال له: وما هي؟ قال يسوع: لا تقتل ولا تسرق ولا تزن ولا تشهد الزور، وقال مرقس: لا تجر، أكرم أباك وأمك - حب قريبك مثلك، قال له الشاب: كل هذا قد حفظته من صغري، قال له يسوع: إن كنت تريد أن تكون كاملا فاذهب، وقال مرقس: [فنظر إليه يسوع وأحبه، وقال: تريد أن تكون كاملا-]، واحدة بقيت عليك: امض وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني، فلما سمع الشاب الكلام مضى حزينا لأنه كان له مال كثير، فقال يسوع لتلامذته: الحق أقول [لكم]! إنه يعسر على الغني الدخول إلى ملكوت السماء، وأيضا أقول لكم: إنه أسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من غني يدخل ملكوت السماوات، فلما سمع التلاميذ بهتوا جدا وقالوا: من يقدر أن يخلص، فنظر يسوع وقال لهم: أما عند الناس فلا يستطاع هذا، وأما عند الله فكل يستطاع، حينئذ أجاب بطرس وقال له: هو ذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا عسى أن يكون لنا، قال لهم يسوع: الحق والحق أقول [لكم]! أنتم الذين اتبعتموني في الجبل الآتي إذا جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون [ ص: 315 ] أنتم على اثني عشر كرسيا، تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، كل من ترك بنين أو أخا أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو بيتا أو حقلا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث حياة الأبد، وقال [لوقا: ما من أحد ترك منزلا أو والدين أو إخوة أو امرأة أو مالا من أجل ملكوت الله إلا وينال العوض أضعافا كثيرة في هذا الزمان وفي الدهر الآتي حياة الأبد، وقال] متى وغيره: كثيرا أولون يصيرون آخرين: وآخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنسانا رب بيت خرج الغداة ليستأجر فعلة لكرمه، فشارك الأكرة على دينار واحد في اليوم - إلى آخر ما مضى في الأعراف من البشارة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم في مثل الفعلة في الكرم الذي فضل آخرهم وهو العامل قليلا على من عمل أكثر النهار وقد ساقه ابن برجان في آخر تفسير سورة الحديد عن الإنجيل بعبارة أخرى تفسيرا كثيرا من عبارة النسخة التي نقلت ذاك منها، فأحببت أن أذكر عبارة ابن برجان هنا تكميلا للفائدة، قال: وفي الكتاب الذي [يذكر] أنه الإنجيل: وكثيرا يتقدم الآخرون الأولين ويكون [الأولون] ساقة الآخرين ، ولذلك يشبه ملكوت السماوات برجل ملي خرج في استئجار الأعوان لحفر كرم في [ ص: 316 ] أول النهار، وعامل كل واحد في نهاره على درهم ثم أدخلهم كرمه، فلما كان في الساعة الثالثة بصر لغيرهم في الرحاب لا شغل لهم فقال: اذهبوا أنتم [أيضا] إلى الكرم وسآمر لكم بحقوقكم، ففعلوا، ثم فعل مثل ذلك في الساعة السادسة [والتاسعة]، فلما كان في الساعة الإحدى عشرة وجد غيرهم وقوفا فقال لهم: لم وقفتم هنا طول نهاركم دون عمل؟ فقالوا له: إنا لم يستأجرنا أحد، فقال لهم: اذهبوا أنتم سآمر لكم بحقوقكم، فلما انقضى النهار قال لوكيله: ادع الأعوان وأعطهم أجرتهم وابدأ بالآخرين حتى تنتهي إلى الأولين، فبدأ بالذين دخلوا في الساعة الإحدى عشرة وأعطى كل واحد [منهم] درهما، فأقبل الأولون وهم الذين يرجون الزيادة، فأعطى كل واحد منهم درهما، فاستذكروا ذلك على صاحب الكرم وقالوا: سويتنا بالذين لم يعملوا إلا ساعة من النهار في شخوصنا طول نهارنا وعذابنا بحرارته، فأجاب أحدهم وقال: لست أظلمك يا صديق، أما عاملتني على درهم فخذ حقك وانطلق فإنه يوافقني أن أعطي الآخر كما أعطيتك، أفلا يحل لي ذلك؟ وإن كنت حسودا فإني أنا رحيم، ومن أجل ذلك يتقدم الآخرون الأولين، ويكون الأولون ساقة الآخرين فالمدعوون كثير، والخيرون قليل، وذكر ابن برجان أن الساعة السادسة لعيسى عليه السلام وأصحابه [ ص: 317 ] في أول الأمر والتاسعة لمحمد صلى الله عليه وسلم والحادية عشرة لآخر الزمان - كأنه يعني ما بعد الدجال من أيام محمد صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجددا، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجددا، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيح شيئا واحدا من العصر إلى غروب الشمس، ثم قال متى في بقية ما مضى من الإنجيل في النسخة التي نقلت منها عقب ما تقدم أنه في الأعراف: فصعد يسوع إلى يروشليم وأخذ الاثني عشر، حينئذ جاءت إليه أم ابني زبدي - هما يعقوب ويوحنا - مع ابنيها وسجدت له، فقال لها: ماذا تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك، أجاب يسوع: أما جلوسهما عن يميني ويساري فليس لي بل للذي أعده لهم ربي، فلما سمع العشرة تقمقموا على الآخرين - وقال مرقس: على يعقوب ويوحنا - فدعاهم يسوع وقال لهم: أما علمتم [أن] رؤساء الأمم يسودونهم وعظماءهم مسلطون عليهم، ليس هكذا يكون فيكم، لكن من أراد أن يكون فيكم كبيرا فيكون لكم خادما، ومن أراد أن يكون فيكم أولا فيكون لكم عبدا، وقال مرقس: فيكون آخرا للكل وخادما للجميع، كذلك ابن [ ص: 318 ] الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم، ويبذل نفسه فداء عن كثير، فلما خرج من أريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على الطريق فسمعا أن يسوع مجتاز فصرخا قائلين: ارحمنا يا رب يا ابن داود، فوقف يسوع ودعاهما وقال لهما: ما تريدان أن أفعل لكما، قالا له: يا رب، أن تفتح أعيننا، فتحنن يسوع ولمس أعينهما وللوقت أبصرت أعينهما وتبعاه، وعبارة مرقس عن ذلك: وجاء إلى أريحا وخرج من هناك وتبعه تلاميذه وجمع كثير وإذا طيماس بن طيماس الأعمى جالس يسأل عن الطريق - وقال لوقا: يتوسل - فسمع الجمع المجتاز فسأل: ما هذا، فأخبروه أن يسوع الناصري جاء، [و]قال مرقس: فلما سمع بأن يسوع مقبل بدأ يصيح ويقول: يا يسوع الناصري بن داود ارحمني، فانتهروه ليسكت، فازداد صياحا قائلا: يا رب يا ابن داود، ارحمني، فوقف يسوع وقال: ادعوه، فدعي [الأعمى] وقالوا له: ثق وقم فإنه يدعوك، وطرح ثوبه ونهض وجاء إلى يسوع فأجابه يسوع وقال له: ما تريد أن أصنع بك؟ فقال له الأعمى: يا معلم، وقال لوقا: يا رب - أن أبصر، فقال له يسوع: اذهب إيمانك خلصك، وللوقت أبصر، وتبعه في الطريق - قال لوقا: يمجد الله - وكان جميع الشعب الذين رأوه يسبحون الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا: وكان بينما هو منطلق إلى يروشليم اجتاز بين السامرة والجليل، وفيما هو داخل [ ص: 319 ] إلى إحدى القرى استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد ورفعوا أصواتهم قائلين: يا يسوع المعلم ارحمنا! فنظر إليهم وقال لهم: اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة، وفيما هم منطلقون طهروا، فلما رأى أحدهم أنه قد طهر رجع بصوت عظيم يمجد الله وخر على وجهه عند رجليه شاكرا له، وكان سامريا، أجاب يسوع وقال: أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة، ألم يجدوا ليرجعوا ويمجدوا الله ما خلا هذا الغريب، ثم قال له: قم فامض، إيمانك خلصك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال متى: ولما قربوا من يروشليم وجاؤا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون - وقال [مرقس]: عند باب فاجي وبيت عنيا جانب طور الزيتون - قال متى: حينئذ أرسل يسوع اثنين من تلاميذه: وقال لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما فتجدان أتانة مربوطة وجحشا معها فحلاهما وائتياني بهما! فإن قال لكما أحد شيئا فقولا له: إن الرب محتاج إليهما! فهو يرسلهما للوقت، كان هذا ليتم ما قيل في النبي القائل قولوا لابنة صهيون هو ذا ملكك يأتيك متواضعا راكبا على أتانة [ ص: 320 ] وجحش ابن أتانة، فذهب التلميذان وصنعا كما أمرهما يسوع، فأتيا بالأتانة والجحش وتركوا ثيابهم عليهما، وجلس معهما، وجمع كثير فرشوا ثيابهم في الطريق [وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق]، وعبارة مرقس عن ذلك: تجد أن جحشا مربوطا لم يركبه أحد من الناس قط، فحلاه وائتيا به، فإن قال لكما أحد: ما تفعلان بهذا؟ فقولا: إن الرب محتاج إليه فمن ساعة يرسله، فذهبا ووجدا الجحش مربوطا عند الباب خارجا على الطريق فحلاه فقال لهما قوم من القيام هناك: ما تصنعان؟ فقالا لهم كما قال يسوع فتركوهما، وجاءا بالجحش إلى يسوع فألقوا عليهم ثيابهم وجلس عليهم وكثير بسطوا ثيابهم في الطريق وآخرون [قطعوا] أغصانا من الحقل وفرشوها في الطريق.

                                                                                                                                                                                                                                      قال متى: والجمع الذي تقدمه والذي تبعوا صرخوا قائلين: أوصنا يا ابن داود مبارك الآتي باسم الرب، قال مرقس: ومباركة المملكة الآتية باسم الرب لأبينا داود أوصنا في العلاء، وقال لوقا: وكان لما قرب من منحدر جبل الزيتون بدأ جمع الملأ والتلاميذ [ ص: 321 ] [يفرحون و] يسبحون الله ويمجدونه بجميع الأصوات من أجل جميع القوات التي نظروا قائلين: تبارك الملك الآتي باسم الرب والسلامة في السماء والمجد في العلا، وقوم من الفريسيين من بين الجمع قالوا له: يا معلم انتهر تلاميذك، فقال لهم: إن سكت التلاميذ نطقت الحجارة، فلما قرب نظر المدينة وبكى عليها وقال: لو علمت في هذا اليوم ما لك فيه من السلامة، فأما الآن فإنه قد خفي عن عينيك، وسوف تأتي أيام تلقى أعداؤك معلمك ويحيطون بك ويضيقون عليك من كل موضع ويقتلونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرا، وقال متى: فلما دخل إلى يروشليم ارتجت المدينة كلها قائلين: من هذا؟ فقال الجمع: هذا يسوع النبي الذي هو من ناصرة الجليل، فدخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص. وقال يوحنا: فصعد يسوع إلى يروشليم فوجد في الهيكل باعة البقرة والكباش والحمام وصيارف جلوسا، فصنع [ ص: 322 ] محضرة من حبل وأخرج جميعهم من الهيكل فطرد البقر والخراف وبدد دراهم الصيارف وقلب موائدهم، [و]قال متى: وقدم [إليه] عميان وعرج في الهيكل فشفاهم، فرأى رؤساء الكهنة العجائب التي صنع والصبيان يصيحون في الهيكل ويقولون: أوصنا يا ابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، فتقمقموا وقالوا: ما تسمع ما يقول هؤلاء، فقال لهم يسوع: نعم، أما قرأتم قط أن من فم الأطفال والمرضعين أعددت سبحا، وتركهم وخرج خارج المدينة وبات هناك في بيت عنيا وفي غد عبر إلى المدينة فجاع ونظر إلى شجرة تين على الطريق فجاء إليها فلم يجد فيها شيئا إلا الورق، فقال لها: لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست تلك الشجرة للوقت، فنظر التلاميذ وتعجبوا وقالوا: كيف يبست التينة للوقت، أجاب يسوع وقال لهم: الحق أقول لكم! إن كان لكم إيمان ولا تشكون ليس مثل هذه الشجرة التين [فقط] تصنعون ولكن تقولون لهذا الجبل: تعال واسقط في البحر، فيكون، وقال مرقس: إن كان لكم إيمان بالله، الحق أقول لكم: إن من قال لهذا [ ص: 323 ] الجبل: انتقل واسقط في هذا البحر، ولا يشك في قلبه بل يصدق فيكون له الذي قال، من [أجل] هذا أقول لكم: إن كل ما تسألونه في الصلاة بإيمان أنكم تنالونه فيكون لكم، وقال متى: وكل ما تسألونه في الصلاة بإيمان تنالونه، وقال مرقس: فقال له يوحنا، يا معلم! رأينا واحدا يخرج الشياطين باسمك فمنعناه لأنه لم يتبعنا، قال لهم يسوع: لا تمنعوه ليس يصنع أحد قوة باسمي، ويقدر سريعا أن يقول على الشر، كل من ليس [هو] عليكم فهو معكم ومن سقاكم كأس ماء باسم أبيكم المسيح [الحق] أقول لكم: إن أجره لا يضيع.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إطلاق الأب على الله و[إطلاق] الرب على غيره [بلا قيد]، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك غير مرة - والله الهادي للصواب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية