الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان أهل الكتاب قد تابعوا أهويتهم على بغض الأميين، وأشربت قلوبهم أن النبوة مختصة بهم لأنهم أولاد إبراهيم عليه السلام من ابنة عمه، والعرب - وإن كانوا أولاده - فإنهم من الأمة وما دروا [أن] كونهم من أولاده مرشح لنبوة بعضهم وكونهم من الأمة، مهيئ لعموم الرسالة لأجل عموم النسب، قال دالا على أنهم صاروا [ ص: 326 ] كالبهائم لا يبصرون إلا المحسوسات معلقا الجار بـ " آمنوا " و " يؤتكم " وما بعده: لئلا يعلم أي ليعلم علما عظيما [يثبت] مضمون خبره وينتفي ضده - بما أفاده زيادة النافي أهل الكتاب أي من الفريقين الذين اقتصروا على كتابهم وأنبيائهم ولم يؤمنوا بالنبي الخاتم وما أنزل عليه ألا أي أنهم لا يقدرون أي في زمن من الأزمان على شيء [أي وإن قل] من فضل الله أي الملك الأعلى الذي خصكم [بما خصكم] به لا يمنع ولا بإعطائكم [حيث] نزع النبوة منهم ووضعها في بني عمهم إسماعيل عليه السلام الذين كانوا لا يقيمون لهم وزنا فيقولون: إنهم بنو الأمة، وإنهم أميون، وإنهم ليس عليهم منهم سبيل، وجعل النبوة التي خصكم بها عامة - كما أشار إليه ما في ابن الأمة من شمول بنسبته وانشعابه وحيث عملوا كثيرا وأعطوا قليلا: "اليهود من أول النهار على قيراط قيراط، والنصارى من الظهر على قيراط قيراط، وهذه الأمة من صلاة العصر على قيراطين قيراطين، فقال الفريقان: ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا، قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن برجان معنى هذا الحديث - كما تقدم عنه قريبا - من الإنجيل وطبقه عليه وذكرته [أنا] في الأعراف، روى الإمام [أحمد] في [ ص: 327 ] مواضع من المسند والبخاري في سبعة مواضع في الصلاة والإجارة وذكر بني إسرائيل وفضائل القرآن والتوحيد، والترمذي في الأمثال - وقال: حسن صحيح - من وجوه شتى جمعت بين ألفاظها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال]: "مثلكم" - وفي هذه الرواية: مثل هذه الأمة ، وفي رواية: مثل أمتي وفي رواية: إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل، وفي رواية: مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استعمل عملاء ، وفي رواية: استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح[ و]في رواية [أخرى]: من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، ألا فعملت اليهود" - وفي رواية: "قالت اليهود: نحن - فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، ألا فعملته النصارى ، وفي رواية: قالت النصارى: نحن، فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس -وفي رواية: إلى أن تغيب الشمس - على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين عملتم ، وفي رواية: تعملون ، وفي رواية: وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل ، وفي رواية إلى مغارب ، وفي رواية: مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت [ ص: 328 ] اليهود والنصارى وقالوا: نحن - وفي رواية: ما لنا - أكثر عملا وأقل عطاء ، وفي رواية :أجرا، قال الله تعالى هل - وفي رواية: وهل - نقصتكم - وفي رواية: هل ظلمتكم - من حقكم شيئا - وفي رواية: أجركم شيئا، قالوا: لا، قال: فإنه - وفي رواية: فإنما - هو فضل ، وفي رواية: فذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وفي رواية: أعطيه من شئت.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول: ألا إن بقاءكم ، وفي رواية: إنما بقاؤكم ، وفي رواية: إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم - وفي رواية: "فيما سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب - وفي رواية: إلى غروب الشمس ، وفي رواية: ألا إن مثل آجالكم في آجال الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغيربان ، وفي رواية: إلى مغرب ، وفي رواية: إلى مغارب الشمس، أعطي - وفي رواية: أوتي - أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار فعجزوا، فأعطوا قيراطا [قيراطا]، وأعطي - وفي رواية: ثم أوتي - أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى - وفي رواية: إلى - صلاة العصر ، وفي رواية : حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس ، وفي رواية: [حتى غروب الشمس] [ ص: 329 ] فأعطيتم قيراطين قيراطين ، وفي رواية: ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين - وفي رواية: أهل التوراة والإنجيل - ربنا هؤلاء أقل منا عملا وأكثر أجرا ، وفي رواية: جزاء ، وفي رواية: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا، ونحن أكثر عملا منهم، قال الله تبارك وتعالى: [هل] وفي رواية: فهل ظلمتكم من أجركم - وفي رواية: من أجوركم - من شيء؟ فقالوا: لا، فقال: فهو فضلي ، وفي رواية فذلك فضلي، أوتيه من أشاء وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث ما قبل هذه الأمم وترك على ذلك أحوالهم فقال: إنه دال على قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام، كان لهم الليل، فكان قوم نوح في أوله في ظلام صرف طويل لم يلح لهم شيء من تباشير الضياء ولا أمارات الصبح، ونوح عليه السلام يخبرهم به ويأمرهم بالتهيؤ له، فلذلك طال بلاؤه عليه السلام بهم، وما آمن معه إلا قليل، وأما قوم إبراهيم عليه السلام فكانوا كأنهم في أواخر الليل، قد لاحت لهم تباشير الصباح وأومضت لهم بوارق الفلاح، فلذلك آمن لوط عليه السلام وكذا سارة زوجته وأولاده منها ومن غيرها كلهم، واستمر الإسلام في أولاده والنبوة حتى جاء موسى عليه السلام، فكان وقته كما بين الصبح والظهر، فكان قومه تارة وتارة، تارة يحسبون أنهم في ضياء كيفما كانوا، فيروغون يمينا وشمالا [ ص: 330 ] فيكونون كمن دخل غيرانا وكهوفا وأسرابا ثم يخرجون منها فيرجعون إلى الضياء، فكانت غلطاتهم تارة كبارا وتارة صغارا، وأما قوم عيسى عليه السلام فكانوا كمن هو في الظهيرة في شدة الضياء فالغلط منه لا يكون إلا عن عمى عظيم، فلذلك كان غلطهم أفظع الغلط وأفحشه - والله الموفق - وأن أي ولتعلموا أن الفضل [أي] الذي لا يحتاج إليه من هو عنده بيد الله أي الذي له الأمر كله يؤتيه من يشاء منهم أو من غيرهم [نبوة كانت أو غيرها].

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ربما ظن ظان أنه لا يخص به إلا لأنه لا يسع جميع الناس دفع ذلك بقوله: والله أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال ذو الفضل العظيم أي مالكه ملكا لا ينفك عنه ولا ملك لأحد [فيه] معه ولا تصرف بوجه أصلا، فلذلك يخص من يشاء بما شاء، فلا يقدر أحد على اعتراض بوجه، فقد نزه له التنزيه الأعظم جميع ما في السماوات والأرض فهو العزيز الحكيم الذي لا عزيز غيره ولا حكيم سواه، فقد انطبق كما ترى آخرها على أولها، ورجع مفصلها على موصلها - والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية