الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الإقرار بالدين المؤجل ]

المثال الثالث والثلاثون : إذا كان عليه دين مؤجل فادعى به صاحبه وأقر به فالصحيح المقطوع به أنه لا يؤاخذ به قبل أجله ; لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فإلزامه به على غير ما أقر به إلزام بما لم يقر به ، وقال بعض أصحاب أحمد والشافعي : يكون مقرا بالحق مدعيا لتأجيله ، فيؤاخذ بما أقر به ، ولا تسمع منه دعواه الأجل إلا ببينة ، وهذا في غاية الضعف ، فإنه إنما أقر به إقرارا مقيدا لا مطلقا ; فلا يجوز أن يلغي التقييد ويحكم عليه بحكم الإقرار المطلق كما لو قال : له علي ألف إلا خمسين أو له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه ، أو له علي ألف من نقد كذا وكذا أو معاملة كذا وكذا ; فيلزمهم في هذا ونحوه أن يبطلوا هذه التقييدات كلها ويلزموه بألف كاملة من النقد الغالب ، ولا يقبل قوله : إنها من ثمن مبيع لم أقبضه ، ومما يبين بطلان هذا القول أن إقرار المرء على نفسه شهادة منه على نفسه كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } .

ولو شهد عليه شاهدان بألف مؤجلة لم يحكم عليه بها قبل الأجل اتفاقا ، فهكذا إذا أقر بها مؤجلة فالحيلة في خلاصه من الإلزام بهذا القول الباطل أن يقول : لا يلزمني توفية ما تدعي علي أداءه إليك إلى مدة كذا وكذا ، ولا يزيد على هذا ، فإن ألح عليه وقال : " لي عليك كذا أم ليس لي عليك شيء ؟ " ولا بد من أن يجيب بأحد الجوابين ، فالحيلة في خلاصه أن يقول : إن ادعيتها مؤجلة فأنا مقر بها ، وإن ادعيتها حالة فأنا منكر .

وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف أن يقول : كان له علي وقضيته ، فيجعله الحاكم مقرا بالحق مدعيا لقضائه ; فالحيلة أن يقول : ليس له علي شيء ، ولا يلزمني أداء ما يدعيه ، [ ص: 283 ] فإن ألح عليه لم يكن له جواب غير هذا ، على أن القول الصحيح أنه لا يكون مقرا بالحق مدعيا لقضائه ، بل منكرا الآن لثبوته في ذمته فكيف يلزم به ؟ فإن قيل : هو أقر بثبوت سابق وادعى قضاء طارئا عليه .

قيل : لم يقر بثبوت مطلق بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي ، ولم يقر بأنه ثابت الآن في ذمته ; فلا يجوز إلزامه به الآن استنادا إلى إقراره به في الزمن الماضي ; لأنه غير منكر ثبوته في الماضي ، وإنما هو منكر لثبوته الآن ، فكيف يجعل مقرا بما هو منكر له ؟ وقياسهم هذا الإقرار على قوله : " له علي ألف لا يلزمني أو لا يثبت في ذمتي " قياس باطل ، فإنه كلام متناقض لا يعقل ، وأما هذا فكلام معقول ، وصدقه فيه ممكن ، ولم يقر بشغل ذمته الآن بالمدعى به ، فلا يجوز شغل ذمته به بناء على إقراره بشغلها في الماضي ، وما نظير هذا إلا قول الزوج : " كنت طلقت امرأتي وراجعتها " فهل يجعل بهذا الكلام مطلقا الآن ؟ وقول القائل : كنت فيما مضى كافرا ثم أسلمت ، فهل يجعل بهذا الكلام كافرا الآن ؟ .

وقول القائل : كنت عبدا فأعتقني مولاي ، هل يجعل بهذا الكلام رقيقا ؟ فإن طردوا الحكم في هذا كله وطلقوا الزوج وكفروا المعترف بنعمة الله عليه وأنه كان كافرا فهداه الله وأمروه أن يجدد إسلامه وجعلوا هذا قنا .

قيل لهم : فاطردوا ذلك فيمن قال : كانت هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الأرض أو هذه الدابة لفلان ثم اشتريتها منه ، فأخرجوها من ملكه بهذا الكلام ، وقولوا : قد أقر بها لفلان ثم ادعى [ أنه ] اشتراها فيقبل إقراره ولا تقبل دعواه فمن جرت هذه الكلمة على لسانه وقال الواقع فأخرجوا ملكه من يده ، وكذلك إذا قالت المرأة : كنت مزوجة بفلان ثم طلقني ، اجعلوها بمجرد هذا الكلام زوجته ، والكلام بآخره ، فلا يجوز أن يؤخذ منه بعضه ويلغى بعضه ، ويقال قد لزمك حكم ذلك البعض ، وليس علينا من بقية كلامك ; فإن هذا يرفع حكم الاستثناء والتقييدات جميعها ، وهذا لا يخفى فساده .

ثم إن هذا على أصل من لا يقبل الجواب إلا على وفق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلص من ظلم المدعي ، ويلجئه إلى أن يقر له بما يتوصل به الإضرار به وظلمه ، أو إلى أن يكذب بيانه أنه إذا استدان منه ووفاه ، فإن قال : " ليس له علي شيء " لم يقبلوا منه ; لأنه لم يجب على نفي الدعوى ، وإن قال : " كنت استدنت منه ووفيته " لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه أوله ، وإن قال : " لم أستدن منه " وكان كاذبا فقد ألجأتموه إلى أن يظلم أو يكذب ولا بد ; فالحيلة لمن بلي بهذا القول أن يستعمل التورية ، ويحلف ما استدان منه ، وينوي أن تكون ما موصولة ، فإذا قال : " والله إني ما استدنت منه " أي إني الذي استدنت منه ، وينفعه تأويله بالاتفاق إذا كان مظلوما ، كما لا ينفعه إذا كان ظالما بالاتفاق

التالي السابق


الخدمات العلمية