الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          43 - فصل

                          [ أصل وضع الخراج ]

                          وأما أصل وضع الخراج فقال أبو عبيد :

                          حدثنا الأنصاري [ محمد بن عبد الله - قال أبو عبيد : ] ولا أعلم إسماعيل بن إبراهيم إلا وقد حدثناه أيضا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز لاحق بن حميد : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث عمار بن ياسر إلى أهل الكوفة على صلاتهم وجيوشهم ، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ، ثم فرض لهم في كل يوم شاة بينهم : شطرها وسواقطها [ ص: 254 ] لعمار والشطر الآخر بين هذين .

                          ثم قال : ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريعا خرابها .

                          قال : فمسح عثمان الأرض فجعل على جريب الكرم عشرة دراهم ، وعلى جريب النخل خمسة دراهم ، وعلى جريب القصب ستة دراهم ، وعلى جريب البر أربعة دراهم ، وعلى جريب الشعير درهمين ، وعلى أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون بها في كل عشرين درهما درهما ، وجعل على رءوسهم - وعطل النساء والصبيان من ذلك - أربعة وعشرين كل سنة ، ثم كتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه ورضي به ، فقيل لعمر : تجار الحرب كم نأخذ منهم إذا قدموا علينا ؟ قال : فكم يأخذون منكم إذا قدمتم عليهم ؟ قالوا : العشر ، قال : فخذوا منهم العشر .

                          حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي قال : وضع عمر رضي الله عنه على أهل السواد على كل جريب عامر [ أو [ ص: 255 ] غامر ] درهما وقفيزا ، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وخمسة أقفزة ، وعلى جريب الشجر عشرة دراهم وعشرة أقفزة ، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعشرة أقفزة ، وعلى رءوس الرجال ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر .

                          حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه مجالد بن سعيد عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف ، فمسح السواد فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب ، فوضع على كل جريب درهما وقفيزا .

                          [ ص: 256 ] قال أبو عبيد : " فأرى حديث الشعبي هذا غير تلك الأحاديث ألا ترى أن عمر رضي الله عنه إنما كان أوجب الخراج على الأرض خاصة بأجرة مسماة في حديث مجالد ، وإنما يذهب الخراج مذهب الكراء وكأنه أكرى كل جريب بدرهم وقفيز في السنة وألغى من ذلك النخل والشجر فلم يجعل لها أجرة " .

                          قال : " وهذا حجة لمن قال : السواد فيء للمسلمين ، وإنما أهلها عمال لهم فيها بكراء معلوم يؤدونه ، ويكون باقي ما تخرج الأرض لهم ، وهذا لا يجوز إلا في الأرض البيضاء ولا يكون في النخل والشجر ; لأن قبالتهما لا تطيب بشيء مسمى فيكون بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق ، وهذا الذي كرهه الفقهاء من القبالة " .

                          [ ص: 257 ] حدثنا شريك عن الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي قال : قلت لابن عمر : إنا نتقبل الأرض فنصيب من ثمارها ، قال أبو عبيد : يعني الفضل ، قال : ذلك الربا العجلان .

                          حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : أتقبل منك الأبلة بمائة ألف ، فضربه ابن عباس مائة وصلبه حيا .

                          [ ص: 258 ] حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي هلال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : القبالات حرام .

                          حدثنا عبد الرحمن عن شعبة عن جبلة بن سحيم قال : سمعت ابن عمر يقول القبالات ربا .

                          قال أبو عبيد : معنى هذه القبالة المكروهة المنهي عنها أن يتقبل الرجل النخل والشجر والزرع النابت قبل أن يستحصد ويدرك ، وهو مفسر في حديث يروى عن سعيد بن جبير .

                          [ ص: 259 ] حدثنا عباد بن العوام عن الشيباني قال : سألت سعيد بن جبير عن الرجل يأتي القرية فيتقبلها وفيها النخل والشجر والزرع والعلوج فقال : لا يتقبلها فإنه لا خير فيها .

                          قال أبو عبيد : وإنما أصل كراهة هذا أنه بيع ثمر لم يبد صلاحه ولم يخلق بشيء معلوم .

                          فأما المعاملة على الثلث والربع وكراء الأرض البيضاء فليسا من القبالات ولا يدخلان فيها ، وقد رخص في هذين ولا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات انتهى .

                          وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيد هو المعروف عند الأئمة الأربعة ، وجعلوا كراء الشجر بمنزلة بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه ، ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا : ليست إجارة الشجر من بيع الثمر في شيء وإنما هي بمنزلة إجارة الأرض لمن يقوم عليها ويزرعها ليستغلها .

                          وهذا مذهب الليث بن سعد ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأبو الوفاء بن عقيل وهو الذي نختاره .

                          [ ص: 260 ] وقد فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما حكاه عنه الإمام أحمد في مسائل ابنه صالح ، أنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وقضى به دينا كان عليه ولم ينكره على عمر أحد من الصحابة مع شهرة هذه القصة ، وهذا إن لم يكن إجماعا إقراريا فهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا نعلم له مخالفا .

                          ومن العجب أخذ أبي عبيد بحديث مجالد - وهو ضعيف - عن الشعبي عن عمر وهو منقطع ، وإنما فيه السكوت عن جريب الشجر لم يذكره بنفي ولا إثبات ، وتركه حديث أبي معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي ، وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ وقد حفظ الثقفي ما لم يحفظ الشعبي وأنه جعل على جريب الكرم عشرة دراهم ، قال : ولم يذكر النخل وهذا يدل على أنه حفظ القصة وميز بين ما ذكره وما لم يذكره ، فهذا عمر وعثمان بن حنيف قد وضعا على الشجر أجرة لازمة مؤبدة ، ولا مخالف لهم من الصحابة .

                          وقد صرح أبو عبيد والفقهاء من بعده بأن الخراج أجرة .

                          قال : ومعنى الخراج في كلام العرب إنما هو الكراء والغلة ، ألا تراهم يسمون غلة الأرض والدار والمملوك خراجا .

                          [ ص: 261 ] ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه قضى أن الخراج بالضمان " .

                          [ ص: 262 ] وكذلك حديثه الآخر أنه احتجم ، حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين وكلم أهله فوضعوا عنه من خراجه .

                          فسمى الغلة خراجا فأرض العنوة يؤدي أهلها إلى الإمام الخراج كما يؤدي مستأجر الأرض والدار كراءها إلى ربها الذي يملكها ، ويكون للمستأجر ما زرع وغرس فيها .

                          ولما علم أبو عبيد أن وضع الخراج على جريب الشجر إجارة له قال : أرى حديث مجالد عن الشعبي هو المحفوظ ، وقام أبو عبيد وقعد في فعل عمر رضي الله عنه هذا ، وقال : لا أعرف وجهه وهي القبالة المكروهة ، وقد بينا أن حديث الشيباني أصح وأصرح ويؤيده تقبيل حديقة أسيد بن حضير ، ومعه القياس ومصلحة الناس ، فإنه لا فرق في القياس بين إجارة الأرض لمن يقوم عليها حتى تنبت وبين إجارة الشجر لمن يقوم عليها حتى تطلع ، كلاهما في القياس سواء .

                          [ ص: 263 ] فإن قيل : مستأجر الأرض هو الذي يبذرها قيل : قد يستأجرها لما ينبت فيها من الكلأ ، وكونه يبذرها مثل قيامه على الشجر بالسقي والزبار والإصلاح ، وقد حكم الله سبحانه بصحة إجارة الظئر للبنها وهو بمنزلة إجارة الشجر لثمرها ، وطرد هذا ما جوزه مالك وغيره من إجارة الشاة والبقرة للبنها مدة معلومة ، وهذا أحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا .

                          والفرق بين إجارة الشجر لمن يخدمها ويقوم عليها حتى تثمر ، وبين بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أوجه .

                          أحدها : أن العقد هنا وقع على بيع عين وفي الإجارة وقع على منفعة ، وإن كان المقصود منها العين فهذا لا يضر كما أن المقصود من منفعة الأرض المستأجرة للزراعة العين .

                          الثاني : أن المستأجر يتسلم الشجر فيخدمها ويقوم عليها كما يتسلم الأرض ، وفي البيع البائع هو الذي يقوم على الشجر ويخدمها وليس للمشتري الانتفاع بظلها ولا رؤيتها ولا نشر الثياب عليها ، فأين أحد الرأيين من الآخر ؟

                          الثالث : أن إجارة الشجر عقد على عين موجودة معلومة لينتفع بها في سائر وجوه الانتفاع ، وتدخل الثمرة تبعا ، وإن كان هو المقصود كما قلتم في نفع البئر ولبن الظئر أنه يدخل تبعا وإن كان هو المقصود .

                          وأما البيع فعقد على عين لم تخلق بعد فهذا لون وهذا لون .

                          [ ص: 264 ] وسر المسألة أن الشجر كالأرض ، وخدمته والقيام عليه كشق الأرض وخدمتها والقيام عليها ومغل الزرع كمغل الثمر ، فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا منه .

                          وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم من منع القبالة فليس مما نحن فيه بل هو من القبالة الفاسدة ، وهي أن يستأجر الرجل الضيعة بكل ما فيها من زرع وشجر وعلوج وما فيها من إجارة بيوت أو حوانيت وغير ذلك ، فيتقبل الجميع ويدفع إلى ربها مالا معلوما ، فهذه إجارة فاسدة تتضمن أنواعا من المحذور كما يفعله كثير من الناس ويسمونها الكراء ، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما : ذلك الربا .

                          ومعلوم أن إجارة الشجر بالدراهم والدنانير لا يدخلها ربا ، والذي منعها لم يمنعها لأجل الربا ، وهذا بين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال له الرجل : أتقبل منك الأبلة فلم يطلب منه إجارة الشجر بل يتقبل البلد كله بما فيه ، ويدفع إليه مالا معلوما فهذا لا يجيزه أحد ، وقد صرح بهذا في حديث ابن عباس سعيد بن جبير فقال : " الرجل يأتي القرية فيتقبلها وفيها النخل والزرع والشجر والعلوج " ، فهذه هي القبالات المحرمة لا التي فعلها أمير المؤمنين وأقره عليها جميع الصحابة ، ولا تتم مصلحة الناس إلا بها كما لا تتم مصلحتهم إلا بإجارة الأرض ، فإن الرجل يكون له البستان وفيه الأشجار الكثيرة ولا يمكنه أن يفرد كل نوع ببيع إذا بدا صلاحه .

                          [ ص: 265 ] والمساقاة من الفقهاء من يمنعها كأبي حنيفة ، ومنهم من يخصها بالنخل والكرم ، ومن جوزها في جميع الشجر فقد تتعذر عليه المساقاة في بستانه ، والرجل الذي له غرض في الثمار قد لا يحسن المساقاة ، فتتعطل مصلحة صاحب البستان ومصلحة المستأجر ، وفي هذا فساد لا تأتي به الشريعة .

                          ومصلحة الإجارة أعظم مما يقدر فيها من الفساد بكثير ، والشريعة جاءت بتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة .

                          ولما كانت مصالح الناس لا تتم إلا بذلك وضع المانعون حيلا للجواز بأن يؤجروه بياض الأرض بأضعاف أضعاف ما تساوي ، ثم يساقونه على ثمر الشجر بأدنى أدنى ما يكون فلا الإجارة مقصودة لهما ولا المساقاة فقد دخلا على عقد لم يقصده واحد منهما ، فالذي قصده هذا وهذا حرام والذي عقدا عليه لم يقصداه ولم تكن هذه المسألة من مقصود الكتاب ، وإنما وقعت في طريق الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها .

                          وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الخراج في الحديث الصحيح [ ص: 266 ] المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال : " منعت العراق درهمها وقفيزها ، ومنعت الشام دينارها ومديها ، ومنعت مصر دينارها وإردبها وعدتم كما بدأتم " ثلاث مرات .

                          والمعنى : سيمنع ذلك في آخر الزمان .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية