الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ومن ذلك الرفع والصعود والعروج إليه ، وهو أنواع :

      منها رفعه عيسى - عليه السلام ، قال الله تعالى : ( وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) ، ( النساء : 157 - 158 ) ، وقال تبارك وتعالى : ( ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) ، ( آل عمران 55 ) ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - ذكر الأحاديث الواردة في نزوله إلى الأرض حكما عدلا في آخر هذه الأمة بشريعة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - في أشراط الساعة .

      [ ص: 161 ] ومنها صعود الأعمال إليه ، كما قال تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، ( فاطر : 10 ) ، وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله - تعالى - يتقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوه ، حتى تكون مثل الجبل . ورواه مسلم أيضا ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة في صحيحه .

      وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذين يذكرون من جلال الله - عز وجل - من تسبيحه وتكبيره ، وتحميده وتهليله ، يتعاطفن حول العرش لهن دوي ، كدوي النحل يذكرن بصاحبهن ، ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به ؟ رواه أحمد وابن ماجه ، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا دعوة المظلوم ، فإنها تصعد إلى الله - عز وجل - كأنها شرارة . قال الذهبي : غريب ، وإسناده جيد .

      وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - مرفوعا : واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب . وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل [ ص: 162 ] النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه . وفي ذلك أحاديث لا تحصى في الصحيحين وغيرهما .

      ومنها صعود الأرواح إلى الله - عز وجل - أعني أرواح المؤمنين ، قال الله تبارك وتعالى : ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، ( الأعراف : 40 ) ، وروى الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب الطويل في قبض الروح ، وفيه قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا ، وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الطيبة ، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال : فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض ، قال : فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا ، حتى ينتهوا إلى سماء الدنيا ، فيستفتحون له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله تعالى : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى . وذكر الحديث ، وسيأتي إن شاء الله بطوله ، وقد تقدم حديث أبي هريرة في ذلك ، وفيه أحاديث جمة ، سنذكر منها ما يسره الله - تعالى - في بابه إن شاء الله .

      [ ص: 163 ] ومنها عروج الملائكة والروح إليه ، قال الله تبارك وتعالى : ( من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه ) ، ( المعارج 3 - 4 ) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم وهو أعلم بهم ، فيقول : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون .

      وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن لله - تبارك وتعالى - ملائكة يطوفون في الطرق ، يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله - تعالى - تنادوا هلموا إلى حاجتكم ، قال : فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، قال : فيسألهم ربهم - عز وجل - وهو أعلم منهم ، ما يقول عبادي ؟ قال يقولون : يسبحونك ويكبرونك ، ويحمدونك ويمجدونك ، قال : فيقول تعالى ، هل رأوني ؟ قال فيقولون : لا والله ، ما رأوك . قال فيقول : وكيف لو رأوني ؟ قال يقولون : لو رأوك كانوا لك أشد عبادة ، وأشد لك تمجيدا ، وأكثر لك تسبيحا . قال يقول : فما يسألوني ؟ قال : يسألونك الجنة ، قال يقول : وهل رأوها ؟ قال يقولون : لا والله يا رب ، ما رأوها . قال يقول : فكيف لو أنهم رأوها ؟ قال يقولون : لو أنهم رأوها ، كانوا أشد عليها حرصا ، وأشد لها طلبا ، وأعظم فيها رغبة . قال : فمم يتعوذون ؟ قال يقولون : من النار . قال يقول : وهل رأوها ؟ قال يقولون : لا والله ، ما رأوها ؟ قال يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال يقولون : لو رأوها ، كانوا أشد منها فرارا ، وأشد لها مخافة . قال فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم ، قال : يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ، إنما جاء لحاجة . قال : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم . متفق عليه ، وهذا لفظ البخاري .

      وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان ملك الموت يأتي الناس عيانا ، فأتى موسى - عليه الصلاة والسلام - فلطمه فذهب بعينه ، فعرج إلى ربه - عز وجل - فقال : يا رب ، بعثتني إلى موسى فلطمني فذهب بعيني ، ولولا كرامته عليك ، لشققت عليه . قال : [ ص: 164 ] ارجع إلى عبدي ، فقل له : فليضع يده على ثور ، فله بكل شعرة وارت كفه سنة يعيشها ، فأتاه فبلغه ما أمره ، فقال : ثم ماذا بعد ذلك ؟ قال : الموت . قال : الآن ، فشمه شمة قبض فيها روحه ، ورد الله على ملك الموت بصره . وفي لفظ : فلطم عينه ففقأها ، فرجع فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فرد الله عليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي ، فقل له : إن كنت تريد الحياة ، فضع يدك على متن ثور ، وفيه قال : يا رب ، فالآن . وقال : رب ، أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر . متفق عليه .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية