الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجبا على السائل ولا مستحبا بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه . وسؤال الخلق في الأصل محرم لكنه أبيح للضرورة وتركه توكلا على الله أفضل قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } أي ارغب إلى الله لا إلى غيره وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فأمرهم بإرضاء الله ورسوله . وأما في الحسب فأمرهم أن يقولوا ( حسبنا الله لا يقولوا : حسبنا الله ورسوله . ويقولوا : { إنا إلى الله راغبون } لم يأمرهم أن يقولوا : إنا لله ورسوله راغبون فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس { يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما [ ص: 182 ] أنت لاق فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا } وهذا الحديث معروف مشهور ; ولكن قد يروى مختصرا . وقوله { إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله } هو من أصح ما روي عنه .

                وفي المسند لأحمد أن أبا بكر الصديق كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ويقول : إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئا . وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك { أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسر إليهم كلمة خفية : أن لا تسألوا الناس شيئا . قال عوف : فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه . } وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب وقال : هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون } فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم . والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك . وقد روي فيه " ولا يرقون " وهو غلط فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره ولم يكن يسترقي فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره وهذا مأمور به فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم .

                [ ص: 183 ] وما يروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق قال له جبريل : سل قال " حسبي من سؤالي علمه بحالي " ليس له إسناد معروف وهو باطل بل الذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال : " حسبي الله ونعم الوكيل " قال ابن عباس : قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين : { قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } وقد روي أن جبريل قال : هل لك من حاجة ؟ قال " أما إليك فلا " وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره . وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع فكيف يقول حسبي من سؤالي علمه بحالي والله بكل شيء عليم وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين . وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضى بها حاجته كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته . ولكن العبد قد يكون مأمورا في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روي في الحديث { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } قال الترمذي حديث حسن غريب . وأفضل العبادات البدنية الصلاة وفيها القراءة والذكر والدعاء وكل [ ص: 184 ] واحد في موطنه مأمور به ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن وفي الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر وفي آخرها يؤمر بالدعاء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في آخر الصلاة ويأمر بذلك والدعاء في السجود حسن مأمور به ويجوز الدعاء في القيام أيضا وفي الركوع وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به .

                وقد سأل الخليل وغيره قال تعالى عنه : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء } { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء } { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقال تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } . وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به وقد ثبت في الصحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من رجل يدعو [ ص: 185 ] لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثله } أي بمثل ما دعوت لأخيك به .

                وأما سؤال المخلوق المخلوق أن يقضي حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به ; بخلاف سؤال العلم فإن الله أمر بسؤال العلم كما في قوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وقال تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وهذا لأن العلم يجب بذله فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة . وهو يزكو على التعليم لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل ولهذا يشبه بالمصباح . وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة لصاحبها أن يسألها ممن هي عنده وكذلك مال الفيء وغيره من الأموال المشتركة التي يتولى قسمتها ولي الأمر للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية ; لأن المستولي يجب عليه أداء الحق إلى مستحقه .

                ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه كما استطعم موسى والخضر أهل القرية . وكذلك الغريم له أن يطلب دينه ممن هو عليه . وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه : [ ص: 186 ] فالبائع يسأل الثمن والمشتري يسأل المبيع . ومن هذا الباب قوله تعالى { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } . ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسئول مأمور بإجابة السائل . قال تعالى : { وأما السائل فلا تنهر } وقال تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم } { للسائل والمحروم } وقال تعالى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } ومنه الحديث { إن أحدكم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا } وقوله { اقطعوا عني لسان هذا } وقد يكون السؤال منهيا عنه نهي تحريم أو تنزيه وإن كان المسئول مأمورا بإجابة سؤاله . فالنبي صلى الله عليه وسلم كان من كماله أن يعطي السائل وهذا في حقه من فضائله ومناقبه وهو واجب أو مستحب وإن كان نفس سؤال السائل منهيا عنه . ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئا من ذلك ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين كما { أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم فقال عمر : يا رسول الله كيف بنا إذا لقينا العدو غدا رجالا جياعا ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثم تدعو الله بالبركة فإن الله يبارك لنا في دعوتك . وفي رواية : فإن الله سيغيثنا بدعائك . } وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى أن يدعو الله له ليرد عليه بصره وكما سألته أم سليم أن يدعو الله لخادمه أنس وكما سأله أبو هريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين ونحو ذلك .

                وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي مثله : { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى } وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم { إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا } فلم يكن في الصحابة أعظم منه من الصديق في نفسه وماله . وكان أبو بكر يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من مخلوق فقال تعالى { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى } فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى ; فإنه كان مستغنيا بكسبه وماله عن كل أحد والنبي صلى الله عليه وسلم كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم وتلك النعمة لا تجزى فإن أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى : { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } . وأما علي وزيد وغيرهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عندهم نعمة تجزى فإن زيدا كان مولاه فأعتقه . قال تعالى : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } وعلي كان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم لجدب أصاب أهل مكة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى عياله وأخذ العباس جعفرا إلى عياله وهذا مبسوط في موضع آخر .

                والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل [ ص: 188 ] الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين . ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره بل لما قال له في سفر الهجرة : إن عندي راحلتين فخذ إحداهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بالثمن " فهو أفضل صديق لأفضل نبي وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من أحد من الخلق لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم . ومن الجزاء أن يطلب الدعاء قال تعالى عمن أثنى عليهم : { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } والدعاء جزاء كما في الحديث { من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه } . وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول : اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله . وقال بعض السلف : إذا قال لك السائل : بارك الله فيك فقل : وفيك بارك الله فمن عمل خيرا مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبيا أو رجلا صالحا أو ملكا من الملوك أو غنيا من الأغنياء فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصا لله يبتغي به وجه الله لا يطلب به من المخلوق جزاء ولا دعاء ولا غيره لا من نبي ولا رجل صالح ولا من الملائكة فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين . وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل [ ص: 189 ] فلا يقبل من أحد دينا غيره قال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام قال نوح : { وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال عن إبراهيم : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقالت السحرة : { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } وقال يوسف : { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقال عن الحواريين : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية