الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [ ص: 233 ] فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

                                                          * * *

                                                          ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم ، وهو وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل وإذ هنا دالة على الوقت الماضي ، والمعنى واذكروا ذلك الوقت ، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر ، والكفر بالنعمة ، اذكروا ذلك العمل الفاجر ، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان ، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون ، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه ، وأنكم نابذتم الحق ، واتبعتم الباطل ، واذكروا وقت أن قال موسى لكم يا قوم لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم ، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين ، فالنداء بقوله يا قوم إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة ، وتأييد ، وإعزاز ، وتنزيه لهم عن الباطل ، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب ، ولقد من الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم ، فقال تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم . ناداهم موسى : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، وهذا عتب رقيق لإثم قوي ، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه ، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بأنهم اتخذوه تنزها عن أن يقول إنهم عبدوه ، لأن ما كان منهم وهم باطل لا يسمى عبادة في الحق ، والقول الطيب ، ولأنهم لم يعبدوه فقط ، بل صنع بأيديهم ، أو بأيدي بعضهم ، وهو ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه .

                                                          ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم ، باتخاذهم العجل ، أكد ذلك بـ " إن " الدالة على التوكيد ، وظلمهم لأنفسهم [ ص: 234 ] بأن أضلوها عن الحق ، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصا موسى ، وانشقاقه ، وفي نجاتهم من الذل ، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل ، كما كان يفعل الذين أذلوها ، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى ، وضلوا ضلالا بعيدا .

                                                          هذه خطيئة ارتكبوها ، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها ، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح ، فقال تعالى : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم الفاء في قوله تعالى : فتوبوا هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق ، ومعنى " برأ " أبدع وأنشأ وجودكم ، والتوبة رجوع إلى الحق ، والتعبير بـ بارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم ، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم ، وصنعوه تحت نظرهم ، ولا يضرهم ، ولا ينفعهم .

                                                          والطريق الذي بينه موسى هو قوله : فاقتلوا أنفسكم أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة ، واقطعوا شهواتها ، والتعبير عن ذلك بقتل النفس ، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت ، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا ، والشرور دائما من الأهواء والشهوات ، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة : " من لم يعذب نفسه لم ينفعها ، ومن لم يقتلها لم يحفظها " وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات .

                                                          وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل ، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها ، وبالأولى لم يصح كلام في نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم .

                                                          واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس ، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب ، وفي القرآن كقوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين .

                                                          [ ص: 235 ] وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى ، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس .

                                                          وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح ، فقال : ذلكم خير لكم الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور ، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر ، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة ، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منهم .

                                                          وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال : فتاب عليكم . أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها ، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران . وعبر سبحانه وتعالى بـ " على " للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم ، وأن ذلك لرحمته بهم ، لا لحاجته إلى طاعتهم ، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله : إنه هو التواب الرحيم . والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى ، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد ، وتواب صيغة مبالغة من تائب ، وتائب تطلق على التائب من الذنب ، وتطلق على من يقبل التوبة ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وهي هنا على هذا المعنى .

                                                          وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم ، لأن كليهما وصف لله تعالى ، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده ، ولقد قال : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

                                                          وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى ، ومنته ، بصيغة المبالغة ، وبالجملة الاسمية ، وبالتأكيد بإن - اللهم تب علينا وارحمنا .

                                                          يذكر الله سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل ، وكفرهم بها ، وبالله . ثم يذكر سبحانه تعنتهم في طلب الدليل رغم الآيات التي أراهم الله سبحانه وتعالى إياها ، ولكن المتعنت لا يقنعه الدليل مهما يكن باهرا ظاهرا قاهرا .

                                                          [ ص: 236 ] ولذا طلبوا عنتا وانحرافا وجهلا أن يروا الله تعالى جهرة ، وقد ذكر الله تعالى ذلك مبينا تعنتهم ، وتدللهم في كفرهم : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي اذكروا أيها الحاضرون في عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما فعلتموه ، وخاطبهم هم بذلك مع أن الذي فعله أسلافهم ; لأنهم يسيرون سيرهم ، ويفترون ويغترون مثلهم .

                                                          اذكروا ذلك الوقت الذي قلتم فيه ذلك ، وليس غريبا أن تقولوه الآن ، قالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي لن نؤمن مسلمين لك ، مستجيبين لما تدعونا إليه ، حتى نرى الله جهرة ، أي حتى نرى الله تعالى رأي العين ، ولن لتأكيد النفي في المستقبل ، وقيل لتأبيد النفي ، والزمخشري وسائر المعتزلة يرون أنها دالة على الاستحالة ، أي استحالة استجابتهم حتى يروا الله عيانا ، ولقد ضاهى قولهم هذا قول المشركين .

                                                          وإن الله تعالى لا يرى في الدنيا بإجماع العلماء قط ; لأن رؤية الدنيا تقتضي مكانا والله سبحانه وتعالى منزه عن المكان ، والأمر في الآخرة أمر الله تعالى لا نعلمه إلا منه ، وهو عالم الغيب والشهادة ، وقد أجابهم موسى إلى ما يريدون فطلب من الله تعالى أن يراه ، ويروه ، كما ذكر تعالى أن ذلك لا يمكن في سورة الأعراف ، فلما تجلى ربهم أصابتهم الصاعقة ، فقال تعالى : فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . وقد فصل الله سبحانه وتعالى مسألة الرؤية وطلب موسى عليه السلام ، فقال تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين .

                                                          لما طلب بنو إسرائيل رؤية الله تعالى جهرة أي عيانا ، طلب موسى ذلك من الله تعالى ليروا ما رآه ، وليعلموا ما علم ، وقيل إن الذين طلبوا ذلك هم السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا معه عندما واعده الله لميقاته الذين قال الله تعالى فيهم : واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فهم الذين [ ص: 237 ] حملوا موسى على أن يطلب رؤية ربه فطلبها عليه الصلاة والسلام ، ومهما يكن الطالبون فإن رؤية الله تعالى مستحيلة في الدنيا ، على ما أشرنا .

                                                          والصاعقة الأمر الشديد الهائل الذي ينزل من السماء نارا ، أو الذي يدك الجبال دكا ، وقد يترتب عليه أن يصعق الإحساس فيغشى على من يراه .

                                                          ومعنى قوله تعالى : فأخذتكم الصاعقة أي أخذت ألبابهم ، ونفوسهم فلم يشعروا وهم ينظرون إليها ، وقد أذهلتهم وذهبت بمشاعرهم فصعقوا كما صعق موسى إذ قال تعالى : وخر موسى صعقا

                                                          وعلى ذلك يكون معنى أخذتهم الصاعقة أنهم غشي عليهم كما يدل على ذلك ما كان لموسى عليه السلام . ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضا ويبين بعضه الدلالة الواضحة لبعضه ، تعالى كلام الله سبحانه وتعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .

                                                          وقوله تعالى : وأنتم تنظرون أي ينظرون إلى الأمر الذي هز مشاعرهم من دك الجبال دكا ، وهول ما وقع نتيجة لما طلبوا ، ثم قوله تعالى : ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون أصل البعث هو الإثارة ، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني : " أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه ، يقال بعثته فانبعث ، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به ، فبعثت البعير أثرته وسيرته ، وقوله تعالى : (يبعثهم ) يخرجهم ويسيرهم إلى يوم القيامة .

                                                          وموتهم هنا هو ما غشيهم ، وفقدوا به إحساسهم ، وعبر عنه بالموت ، لأنه يشبه الموت من حيث إنهم فقدوا شعورهم وأصبحوا لا يحسون شيئا .

                                                          ومعنى قوله تعالى : ثم بعثناكم من بعد موتكم أي أثرناهم ، وحركناهم ، وأوجدنا فيهم الإحساس . والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى البعد بين حالهم ، وهم أشباه الموتى بما صعقهم من غاشية ، وما آلوا إليه من شعور بالحياة والحركة . . ، وقد فقدوا ذلك ، بسوء ما طلبوا ، وعدم فهمهم . والله تعالى ولي المؤمنين .

                                                          [ ص: 238 ] وإن ذلك يقتضي شكرهم ، لأنه كان قادرا على تركهم فيما آل إليه أمرهم ولذا قال تعالى : (ولعلكم تشكرون ) أي رجاء أن تشكروا ، فالرجاء منهم لا من الله تعالى .

                                                          بعد أن بعثهم الله تعالى ، أو كان ذلك مقارنا لخروجهم من مصر ، وهو الظاهر ، لأن هذه النعم ، وما كان منهم من حوادث جاء بعد أن أنجاهم الله تعالى من آل فرعون ، وفرق البحر بهم ، والواو لا تقتضي ترتيبا ، ولا تعقيبا ، لقد انتقلوا من الوادي الخصيب إلى صحراء تلفح الوجوه ، وليس فيها ظل ولا ظليل ، ولكن الله تعالى لم يتركهم في حرور الصحراء وجردائها بل أظلهم بالغمام ، وأمدهم بأطيب الطعام ، وأبركه ، فقال تعالى مبينا هذه النعمة : وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى

                                                          أي جعلنا الغمام ، وهو السحاب الشديد العتمة ، اسم جنس جمعي للغمامة ، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسب ، مثل روم ورومي .

                                                          تكاثف الغمام في الصحراء ، حتى صار كمظلة تظلهم أينما ساروا فلا يحسون بوهج الحر يلفح وجوههم ، وقد شكوا من حر الشمس والجوع ، فأنزل الله تعالى رزقا طيبا : المن والسلوى .

                                                          والمن كان بدل الخبز ، وقد أصبحوا فوجدوه في الأرض صغيرا كحب الجزرة ، وكانوا يتناولونه كالرقاق التي اختلطت بعسل فالتقى فيه خواص الدقيق والعسل معا ، وسبحان الرزاق العليم ، فكان خبزهم ، فالمن على ذلك غذاء جيد ينزل من السماء ويبسط على الأرض فيه خواص الدقيق والعسل معا .

                                                          والسلوى طير ، كان يجيء إليهم يطير على مقدار رمح من الأرض أو يزيد قليلا ، فيأخذونه باليد من غير صيد أو أي محاولة ، وبذلك اجتمع لديهم كل عناصر الغذاء الكامل ، من غير كد ، ولا لغوب .

                                                          [ ص: 239 ] وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك الرزق الذي رزقهم الله تعالى إياه بقوله تعالى : وأنـزلنا عليكم المن والسلوى لأنه ما كان بكسب كسبوه ، ولكنه رزق الله تعالى من السماء أنزله إليهم لتطيب إقامتهم في الصحراء ، حتى يقضي الله تعالى أمره فيهم ، فالإنزال معنوي لأنه بأمر الله تعالى لطفا بهم ورحمة ، وليكون ذلك معجزة فوق المعجزات التي توالت عليهم ، ومع ذلك جحدوا بآيات ربهم ، ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أنه مكن لهم ذلك تمكينا ، فقال سبحانه : كلوا من طيبات ما رزقناكم وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذلك الطعام بأنه طيب ، والطعام الطيب هو الذي تشتهيه النفس ، ويكون مريئا لا يضر ولا يعاف ، و (من ) في قوله تعالى : من طيبات ما رزقناكم هي للتبعيض باعتبار أنهم يأكلون منه ما يشتهون وما يطيقون غير مدخرين ، لأنهم يجدون ما رزقهم الله تعالى مجددا دائما ، ويذكر في بعض الكتب أنهم كانوا يأكلون رزق كل يوم ، وقد أمروا بذلك لأنه يفسد في اليوم التالي ويجيء الجديد ليحل محل الفاسد .

                                                          ويحتمل أن تكون " من " بيانية ، ويكون المعنى كلوا طيبات ما رزقناكم ، وعلى التقديرين يتحقق وصف الطيبات ، وذكر سبحانه أنه رزق خالص من الله جاءهم من غير جهد ولا نصب ، بل هو رزق الله تعالى ساقه إليهم سبحانه وتعالى .

                                                          وأنهم بتوافر هذه النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم ، إذا هم جحدوا آياته ، وأعرضوا عن بيناته . . ما كان سبحانه وتعالى إلا منعما عليهم إذ أنجاهم من ظلم فرعون وإذلاله ، وبعد أن كانوا مستضعفين مكن الله لهم في الأرض ، ومن عليهم ، وكلما شكوا أمدهم الله تعالى بعونه ، وسهل لهم الحياة العزيزة الكريمة المنيعة .

                                                          [ ص: 240 ] وما ظلمونا ما نقصهم سبحانه وتعالى شيئا من أسباب الحياة والقوة والسلطان ، ولكنهم جحدوا شكر ما أنعم الله تعالى به عليهم ، فكفروه ، فكانوا هم الظالمين لأنفسهم ; ولذا قال تعالى : ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وأكد الله سبحانه وتعالى عليهم أنهم هم الظالمون لأنفسهم وذلك بالاستدراك في قوله : (ولكن ) إذ معنى الاستدراك عن ظلم الله تعالى لهم بيان أن ظلمهم لأنفسهم كان منهم لا من الله سبحانه وتعالى ، وأكده بالتعبير بـ (كانوا ) وهي تدل على الاستمرار ، كما نوهنا بذلك مرارا ، وأكده سبحانه وتعالى بتقديم (أنفسهم ) لأن التقديم يدل على الاختصاص ، أي أنهم بهذا الجحود يظلمون أنفسهم ، ولا يتجاوز ظلمهم أنفسهم إلي ; فهم يظلمون أنفسهم وحدها .

                                                          وظلمهم أنفسهم ، لأن الكفر ظلم للنفس ، إذ هو ضلال في ذاته ، وأي ظلم للنفس أشد من تدليتها في الضلال ؟ ! وكفروا بأنعم الله تعالى ، وذلك ظلم كبير واقع عليهم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية