الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الله يستهزئ بهم

لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر ، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين : آمنا ، وقولهم لشياطينهم : إنا معكم إلخ . يقول : لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم ، وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم ، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين ، ومن الذي يتولى مقابلة صنعهم ؟ فكان للاستئناف بقوله الله يستهزئ بهم غاية الفخامة والجزالة . وهو أيضا واقع موقع الاعتراض ، والأكثر في الاعتراض ترك العاطف . وذكر : يستهزئ دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم . ولأجل اعتبار الاستئناف قدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي . ولم يقل يستهزئ الله بهم ، لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول : من الذي يتولى مقابلة سوء صنيعهم فأعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى . وفي ذلك تنويه بشأن المنتصر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوي الحكم لا محالة ، ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف كما صرح به في قوله تعالى والله يقدر الليل والنهار في سورة المزمل ، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزا في مقاصد الكلام البليغ ، وقد جوزه في الكشاف عند قوله تعالى فلا يخاف بخسا ولا رهقا في سورة الجن ؛ لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حمل الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام ، ولذلك يقال النكت لا تتزاحم .

كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبيء صلى الله عليه وسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ، ولذلك قال عبد الله بن أبي [ ص: 294 ] ليخرجن الأعز منها الأذل فقال الله تعالى ولله العزة ولرسوله فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضى له .

وفعل ( يستهزئ ) المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله ويمدهم في طغيانهم ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، بما يشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم . والمضارع في قوله ( يستهزئ ) لزمن الحال .

ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا ، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة . ويجوز أن يكونيستهزئ بهم حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في يستهزئ للاستقبال ، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية ، ويجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى : ( يذلهم ) وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة ، أو مرادا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم .

وهذا كله - وإن جاز - فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في الكشاف ، وهو مبني على المتعارف بين الناس .

وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم إنما نحن مستهزئون لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه .

وجيء في قوله الله يستهزئ بهم بإفادة التجدد من الفعل المضارع ؛ أي تجدد إملاء الله لهم زمانا إلى أن يأخذهم العذاب ، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل

التالي السابق


الخدمات العلمية