الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 176 ]

                الفصل الثاني

                في التكليف

                وهو لغة : إلزام ما فيه كلفة ، أي مشقة .

                وشرعا : قيل : الخطاب بأمر أو نهي ، وهو صحيح . إلا أن نقول : الإباحة تكليف على رأي مرجوح ، فترد عليه طردا وعكسا . فهو إذن إلزام مقتضى خطاب الشرع . وله شروط ، يتعلق بعضها بالمكلف ، وبعضها بالمكلف به .

                التالي السابق


                قوله في المختصر : " الفصل الثاني في التكليف . وهو لغة " ، أي : في اللغة " إلزام ما فيه كلفة أي : مشقة " .

                قلت : إلزام الشيء والإلزام به : هو تصييره لازما لغيره ، لا ينفك عنه مطلقا أو وقتا ما .

                قال الجوهري : والكلفة ما يتكلفه من نائبة أو حق ، وكلفه تكليفا : إذا أمره بما يشق . قلت : هذا تعريف لغوي بناء على ما اشتهر من حقيقة الكلفة ، وتعريفها الصناعي قد فهم من قوله : كلفه ، أي : أمره بما يشق ، فهي إذا كما قلناه : إلزام ما يشق . والشق والمشقة واحد ، وهو لحوق ما يستصعب بالنفس ، قال الله سبحانه [ ص: 177 ] وتعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] . وأنشد الشيخ أبو محمد مستشهدا على التكليف قول الخنساء في أخيها صخر بن عمرو بن الشريد :


                يكلفه القوم ما نابهم وإن كان أصغرهم مولدا

                أي : يلزمونه ذلك بحكم رئاسته عليهم .

                قوله : " وشرعا " أي : والتكليف شرعا ، أي : في الشرع ، " قيل : الخطاب بأمر أو نهي " .

                هذا هو الذي ذكره الشيخ أبو محمد ، وإنما قلت فيه : قيل ، لما ذكرته بعد من التفصيل ، فإنه على أحد التقديرين يكون منقوضا .

                قوله : " وهو " أي تعريف التكليف بما ذكر " صحيح ، إلا أن نقول : الإباحة تكليف على رأي مرجوح ، فترد عليه " يعني : ترد الإباحة على تعريف التكليف المذكور " طردا وعكسا " أي : من جهة الطرد والعكس .

                قلت : قد اختلف الأصوليون في الإباحة ، هل هي تكليف أم لا ؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . فإن قلنا : ليست تكليفا ، صح تعريف التكليف بما ذكر ، فيكون كل تكليف خطابا بأمر أو نهي ، وكل خطاب بأمر أو نهي تكليفا .

                وإن قلنا : الإباحة تكليف ، انتقض التعريف المذكور بها من جهة الطرد ، وهو وجود الحد بدون المحدود ، لأنه ليس كلما وجد الخطاب بأمر أو نهي ، وجد التكليف ، لأن الإباحة مثل قوله : وكلوا واشربوا [ الأعراف : 31 ] فإذا طعمتم فانتشروا [ الأحزاب : 53 ] وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] ، ونحوه من [ ص: 178 ] المباحات ، خطاب بأمر ، وليس تكليفا .

                وكذلك من جهة العكس ، وهو انتفاء المحدود عند انتفاء الحد لأنه ليس كلما انتفى الخطاب بأمر أو نهي ، انتفى التكليف ، لأن الخطاب بأمر أو نهي قد ينتفي ، ويكون التكليف موجودا في المباحات ، إذ حقيقة الإباحة ، التخيير بين الفعل وتركه ، نحو إن شئت فافعل ، وإن شئت لا تفعل . وحقيقة التخيير ، غير حقيقة الأمر والنهي .

                فإذا قلنا : الإباحة تكليف ، فقد صح وجود التكليف مع انتفاء الأمر والنهي .

                تنبيه : اطراد الحد ، كونه جامعا لأجزاء المحدود ، وانعكاسه ، كونه مانعا . فمعنى كونه مطردا منعكسا ، هو معنى كونه جامعا مانعا .

                فإذا قلنا : الإنسان حيوان ناطق ، هو مطرد ، لأنه حيث وجد الحيوان الناطق ، وجد الإنسان ، ومنعكس ، لأنه حيث انتفى الحيوان الناطق ، انتفى الإنسان ، وكذلك نقول : هو جامع ، لأنه جمع أجزاء نوع الإنسان ، فلم يخرج عنه شيء منه ، وهو مانع ، لأنه منع شيئا من أجزاء نوع الإنسان أن يخرج عنه .

                والاطراد ، مشتق من الطرد ، قال الجوهري : طردت الإبل طردا وطردا ، أي : ضممتها من نواحيها ، وقال في موضع آخر : اطرد الأمر ، أي : استقام ، واطرد الشيء : تبع بعضه بعضا ، فهذه المعاني كلها موجودة في اطراد الحد ، لأنه يضم أجزاء المحدود ويجمعها ، ويتبع المحدود ، بحيث يوجد حيث وجد ، ويستقيم بذلك ويستمر عليه .

                وأما الانعكاس : فهو انفعال من العكس .

                قال الجوهري : هو ردك آخر الشيء إلى أوله ، والعكس في الاصطلاح ، أعم من هذا . ولا شك أن قولنا : إذا وجد وجد .

                قلت : وإذا انتفى ، فيه معنى العكس ، لأن الوجود والعدم ، والإثبات [ ص: 179 ] والنفي متقابلان تقابل الأول والآخر ، أو نحو ذلك .

                قوله : " فهو إذا " أي : فالتكليف إذا " إلزام مقتضى خطاب الشرع " ، أي حيث قلنا : الإباحة تكليف ، ووردت نقضا على حد التكليف بأمر أو نهي .

                فحده الصحيح الذي لا ينتقض بالإباحة ، هو قولنا : إلزام مقتضى خطاب الشرع ، لأنه يتناول الإباحة ، وهي قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ، لأنها خطاب الشرع ، كما أن الأمر والنهي خطاب الشرع .

                فالتكليف : إلزام مقتضى هذا الخطاب ، وهو الأحكام الخمسة : الوجوب ، والندب الحاصلين عن الأمر ، والحظر والكراهة الحاصلين عن النهي ، والإباحة الحاصلة عن التخيير ، كما سيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى .

                فإن قيل : مقتضى الإباحة لا يلزم ، قلنا : يأتي جواب هذا إن شاء الله تعالى .

                قوله : " وله شروط " أي : للتكليف شروط " يتعلق بعضها بالمكلف " وهو العاقل المخاطب ، " وبعضها بالمكلف به " وهو الفعل المستدعى بالخطاب .




                الخدمات العلمية