الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولا ثم بالتبتل ثانيا ذكر السبب فيه فقال تعالى : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة ، والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى ، وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل ، أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته ؛ إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوبا لأجل شيء آخر ، وإلا لزم التسلسل ، فإذا لا بد من الانتهاء إلى ما يكون محبوبا لذاته ، والكمال محبوب لذاته ، فإن من اعتقد أن فلانا الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفا بعلم أزيد من علم سائر الناس , مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى ، ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفا بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى ، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته , وكمال الكمال لله تعالى ، فالله تعالى محبوب لذاته ، فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله ، وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب ، والجواد المطلق هو الله تعالى , فالمحبوب المطلق هو الله تعالى ، والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى ؛ لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه ، فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه ، واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملا في ذاته ؛ لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة , فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان ، ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالبا للمعروف لا للعرفان ، فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله : ( رب المشرق والمغرب ) إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله : ( لا إله إلا هو ) إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين ، فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي ، ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر ، وهو مقام التفويض ، وهو أن يرفع الاختيار من البين ، ويفوض الأمر بالكلية إليه ، فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو ، بل من حيث إنه مراد الحق ، وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتل ، بل من حيث إنه مراد الحق ، وههنا آخر الدرجات ، وقوله : ( فاتخذه وكيلا ) إشارة إلى هذه الحالة ، فهذا ما جرى به القلم في تفسير هذه الآية ، وفي الزوايا خبايا ، ومن أسرار هذه الآية بقايا ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [لقمان : 27] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : "رب" فيه قراءتان :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداهما : الرفع ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : على المدح ، والتقدير هو رب المشرق ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، كقوله : ( بشر من ذلكم النار ) [الحج : 72] وقوله : ( متاع قليل ) [ ص: 159 ] [ آل عمران : 179] أي تقلبهم متاع قليل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن ترفعه بالابتداء ، وخبره الجملة التي هي ( لا إله إلا هو ) ، والعائد إليه الضمير المنفصل .

                                                                                                                                                                                                                                            والقراءة الثانية : الخفض ، وفيها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : على البدل من " ربك " .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسم كقولك : الله لأفعلن وجوابه : ( لا إله إلا هو ) كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد ، وقرأ ابن عباس : "رب المشارق والمغارب . "

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فاتخذه وكيلا ) فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلا وأن تفوض كل أمورك إليه ، وههنا مقام عظيم ، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه ، فإنه غير عالم بحقيقة " لا إله إلا هو " ، وتقريره : أن كل ما سواه ممكن ومحدث ، وكل ممكن ومحدث فإنه ما لم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب ، ولما كان الواجب لذاته واحدا كان جميع الممكنات مستندة إليه منتهية إليه ، وهذا هو المراد من قوله : ( فاتخذه وكيلا ) . وقال بعضهم : ( وكيلا ) أي : كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية