الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الثاني في حال الاضطرار

                                                                                                                                                                        فيه مسائل :

                                                                                                                                                                        إحداها : للمضطر إذا لم يجد حلالا ، أكل المحرمات : كالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما في معناها . والأصح : وجوب أكلها عليه ، كما يجب دفع الهلاك بأكل الحلال . والثاني : يباح فقط .

                                                                                                                                                                        الثانية : في حد الضرورة ، لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الحرام ، ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت ، فإن الأكل حينئذ لا ينفع . ولو انتهى إلى تلك الحالة ، لم يحل له الأكل ، فإنه غير مفيد . ولا خلاف في الحل إذا كان يخاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي أو الركوب ، وينقطع عن رفقته ويضيع ، ونحو ذلك . فلو خاف حدوث مرض مخيف جنسه ، فهو كخوف الموت . وإن خاف طول المرض ، فكذلك على الأصح أو الأظهر . ولو عيل صبره وجهده الجوع فهل يحل له المحرم ، أم لا يحل حتى يصل إلى أدنى الرمق ؟ قولان :

                                                                                                                                                                        قلت : أظهرهما : الحل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولا يشترط فيما يخاف منه تيقن وقوعه لو لم يأكل ، بل يكفي غلبة الظن .

                                                                                                                                                                        [ ص: 283 ] الثالثة : يباح للمضطر أن يأكل من المحرم ما يسد الرمق قطعا ، ولا تحل الزيادة على الشبع قطعا . وفي حل الشبع ، ثلاثة أقوال . ثالثها : إن كان قريبا من العمران لم يحل ، وإلا فيحل . ورجح القفال وكثير من الأصحاب المنع . ورجح صاحب " الإفصاح " والروياني وغيره الحل . هكذا أطلق الخلاف أكثرهم . وفصل الإمام والغزالي تفصيلا حاصله : إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع لا يقطعها ويهلك وجب القطع بأنه يشبع . وإن كان في بلد وتوقع الطعام الحلال قبل عود الضرورة ، وجب القطع بالاقتصار على سد الرمق . وإن كان لا يظهر حصول طعام حلال ، وأمكنه الرجوع إلى الحرام مرة بعد أخرى ، إن لم يجد الحلال ، فهو موضع الخلاف .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا التفصيل ، هو الراجح . والأصح من الخلاف : الاقتصار على سد الرمق . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الرابعة : يجوز له التزود من الميتة إن لم يرج الوصول إلى الحلال . وإن رجاه ، قال في " التهذيب " وغيره : يحرم . وعن القفال : أن من حمل الميتة من غير ضرورة ، لم يمنع ما لم يتلوث بالنجاسة . وهذا يقتضي جواز التزود عند الضرورة وأولى .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : جواز التزود إذا رجا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الخامسة : إذا جوزنا الشبع ، فأكل ما سد رمقه ، ثم وجد لقمة حلالا ، لم يجز أن يأكل من المحرم حتى يأكلها ، فإذا أكلها هل له الإتمام إلى الشبع ؟ وجهان : وجه المنع : أنه باللقمة عاد إلى المنع ، فيحتاج إلى عود الضرورة .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح الجواز . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        السادسة : لو لم يجد المضطر إلا طعام غيره وهو غائب أو ممتنع من البذل ، [ ص: 284 ] فهل يقتصر على سد الرمق ، أم له الشبع ؟ فيه طرق أصحها : طرد الخلاف كالميتة . والثاني : له الشبع قطعا . والثالث : ليس له قطعا . السابعة : المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان ، مسكر وغيره ، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم ، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا . وكذا الزاني المحصن ، والمحارب ، وتارك الصلاة على الأصح فيهم . ولو كان له قصاص على غيره ، ووجده في حالة اضطرار ، فله قتله قصاصا وأكله ، وإن لم يحضره السلطان . وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب ، ففي " التهذيب " : أنه لا يجوز قتلهم للأكل وجوزه الإمام ، والغزالي ، لأنهم ليسوا بمعصومين . والمنع من قتلهم ، ليس لحرمة أرواحهم ، ولهذا لا كفارة فيهم .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : قول الإمام . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        والذمي ، والمعاهد ، والمستأمن ، معصومون ، فيحرم أكلهم . ولا يجوز للوالد قتل ولده للأكل ، ولا للسيد قتل عبده . ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا ، فالصحيح حل أكله ، قال الشيخ إبراهيم المروذي : إلا إذا كان الميت نبيا ، فلا يجوز قطعا . قال في " الحاوي " : فإذا جوزنا ، لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق ؛ حفظا للحرمتين . قال : وليس له طبخه وشيه ، بل يأكله نيئا ؛ لأن الضرورة تندفع بذلك ، وطبخه هتك لحرمته ، فلا يجوز الإقدام عليه ، بخلاف سائر الميتات ، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة . ولو كان المضطر ذميا ، والميت مسلما ، فهل له أكله ؟ حكى فيه صاحب " التهذيب " وجهين :

                                                                                                                                                                        قلت : القياس : تحريمه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو وجد ميتة ولحم آدمي ، أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير . وإن وجد المحرم صيدا ولحم آدمي أكل الصيد . ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة [ ص: 285 ] من فخذه أو غيرها ليأكلها ، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد حرم ، وإلا جاز على الأصح بشرط أن لا يجد غيره . فإن وجد حرم قطعا . ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا ، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر .

                                                                                                                                                                        القسم الثاني : المسكر ، والمذهب عند جمهور الأصحاب : أنه لا يحل شرب الخمر لا للتداوي ولا للعطش ، وقيل : يجوز لهما . وقيل لهذا دون ذاك ، وقيل : بالعكس . فإذا جوزنا للعطش ، فوجد خمرا وبولا شرب البول ؛ لأن تحريمه أخف . كما لو وجد بولا وماء نجسا ، شرب الماء ، لأن نجاسته طارئة . وما سوى المسكر من النجاسات ، يجوز التداوي به كله على الصحيح المعروف . وقيل : لا يجوز . وقيل : لا يجوز إلا بأبوال الإبل . وفي جواز التبخر بالدن الذي فيه خمر وجهان بسبب دخانه .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : الجواز ؛ لأنه ليس دخان نفس النجاسة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثامنة : إذا وجد المضطر طعاما حلالا لغيره فله حالان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يكون مالكه حاضرا . فإن كان مضطرا إليه ، فهو أولى به ، وليس للأول أخذه منه إذا لم يفضل عن حاجته ، إلا أن يكون نبيا ، فإنه يجب على المالك بذله [ له ] ، فإن آثر المالك غيره على نفسه ، فقد أحسن . قال الله تعالى : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . وإنما يؤثر على نفسه مسلما . فأما الكافر فلا يؤثره حربيا كان أو ذميا ، وكذا لا يؤثر بهيمة على نفسه . وإن لم يكن المالك مضطرا لزمه إطعام المضطر مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح . وللمضطر أن يأخذه قهرا أو يقاتله عليه وإن أتى القتال على نفس المالك فلا ضمان فيه . وإن قتل المالك المضطر في الدفع عن طعامه ، لزمه القصاص . وإن منعه الطعام فمات جوعا فلا ضمان . قال في " الحاوي " : ولو قيل : يضمن كان مذهبا . وهل القدر الذي يجب على [ ص: 286 ] المالك بذله ، ويجوز للمضطر أخذه قهرا والقتال [ عليه ] ما يسد الرمق ، أم قدر الشبع ؟ فيه قولان بناء على القولين في الحلال من الميتة ، وهل يجب على المضطر الأخذ قهرا والقتال ؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف في وجوب الأكل من الميتة ، وأولى بأن لا يجب .

                                                                                                                                                                        قلت : المذهب : لا يجب القتال ، كما لا يجب دفع الصائل وأولى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وخصص صاحب " التهذيب " الخلاف بما إذا لم يكن عليه خوف في الأخذ قهرا . قال : فإن كان لم يجب قطعا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        حيث أوجبنا على المالك بذله للمضطر ، ففي " الحاوي " وجه : أنه يلزمه بذله مجانا ، ولا يلزم المضطر شيء ، كما يأكل الميتة بلا شيء . والمذهب : أنه لا يلزمه البذل إلا بعوض ، وبهذا قطع الجمهور . وفرقوا بينه وبين ما إذا خلص مشرفا على الهلاك بالوقوع في ماء أو نار ، فإنه لا تثبت أجرة المثل ؛ لأن هناك يلزمه التخليص ، ولا يجوز التأخير إلى تقرير الأجرة ، وهنا بخلافه ، وسوى القاضي أبو الطيب وغيره بينهما ، فقالوا : إن احتمل الحال هناك موافقته على أجرة يبذلها أو يلتزمها لم يلزم تخليصه حتى يلتزمها كما في المضطر . وإن لم يحتمل حال التأخير في صورة المضطر ، فأطعمه لم يلزمه العوض ، فلا فرق بينهما . ثم إن بذل المالك طعامه مجانا لزمه قبوله ، ويأكله إلى أن يشبع ، فإن بذله بالعوض نظر إن لم يقدر العوض لزم المضطر قيمة ما أكل في ذلك المكان والزمان ، وله أن يشبع ، وإن قدره ، فإن لم يفرد ما يأكله فالحكم كذلك . وإن أفرده فإن كان المقدر ثمن المثل ، فالبيع صحيح ، وللمضطر ما فضل عن الأكل .

                                                                                                                                                                        وإن كان [ ص: 287 ] أكثر والتزمه ، ففيما يلزمه أوجه : أقيسها وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب : يلزمه المسمى ؛ لأنه التزمه بعقد لازم . وأصحها عند الروياني : لا يلزمه إلا ثمن المثل في ذلك الزمان والمكان ؛ لأنه كالمكره . والثالث وهو اختيار صاحب " الحاوي " : إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر ليساره لزمته وإلا فلا . قال أصحابنا : وينبغي للمضطر أن يحتال في أخذه منه ببيع فاسد ؛ ليكون الواجب القيمة قطعا ، وقد يفهم من كلامهم القطع بصحة البيع ، وأن الخلاف فيما يلزم ثمنا . لكن الوجه جعل الخلاف في صحة العقد لمعنى الإكراه ، وأن المضطر هل هو مكره أم لا ؟ وفي تعليق الشيخ أبي حامد ما يبين ذلك . وقد صرح به الإمام ، فقال : الشراء بالثمن الغالي للضرورة ، هل يجعله مكروها حتى لا يصح الشراء ؟ وجهان أقيسهما : صحة البيع . قال : وكذا المصادر من جهة السلطان الظالم إذا باع ماله للضرورة ، ولدفع الأذى الذي يناله . والأصح : صحة البيع ؛ لأنه لا إكراه على البيع ، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان ، وبهذا قطع الشيخ إبراهيم المروذي ، واحتج به لوجه لزوم المسمى في مسألة المضطر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        متى باع المالك بثمن المثل ومع المضطر مال ، لزمه شراؤه ، وصرف ما معه إلى الثمن ، حتى لو كان معه إزار فقط ، لزمه صرفه إليه إن لم يخف الهلاك بالبرد ، ويصلي عاريا ؛ لأن كشف العورة أخف من أكل الميتة . ولهذا يجوز أخذ الطعام قهرا ، ولا يجوز أخذ ساتر العورة قهرا وإن لم يكن معه مال ، لزمه التزامه في ذمته ، سواء كان له مال في موضع آخر أم لا . ويلزم المالك في هذا الحال البيع نسيئة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 288 ] فرع

                                                                                                                                                                        ليس للمضطر الأخذ قهرا إذا بذل المالك بثمن المثل . فإن طلب أكثر ، فله أن لا يقبل ويأخذه قهرا ويقاتله عليه . فإن اشتراه بالزيادة مع إمكان أخذه قهرا فهو مختار في الالتزام ، فيلزمه المسمى بلا خلاف . والخلاف السابق إنما هو فيمن عجز عن الأخذ قهرا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أطعمه المالك ولم يصرح بالإباحة ، فالأصح : أنه لا عوض عليه ، ويحمل على المسامحة المعتادة في الطعام . ولو اختلفا فقال : أطعمتك بعوض فقال : بل مجانا ، فهل يصدق المالك لأنه أعرف بدفعه ، أم المضطر لبراءة ذمته ؟ وجهان . أصحهما : الأول . ولو أوجر المالك المضطر قهرا ، أو أوجره وهو مغمى عليه ، فهل يستحق القيمة ؟ وجهان . أحسنهما : يستحق ؛ لأنه خلصه من الهلاك ، كمن عفا عن القصاص ، ولما فيه من التحريض على مثل ذلك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كما يجب بذل المال لإبقاء الآدمي المعصوم ، يجب بذله لإبقاء البهيمة المحترمة ، وإن كان ملكا للغير . ولا يجب البذل للحربي ، والمرتد ، والكلب العقور . ولو كان لرجل كلب غير عقور جائع وشاة ، لزمه ذبح الشاة لإطعام الكلب . قال في " التهذيب " : وله أن يأكل من لحمها ، لأنها ذبحت للأكل .

                                                                                                                                                                        [ ص: 289 ] الحال الثاني : أن يكون المالك غائبا ، فيجوز للمضطر أكل طعامه ويغرم له القيمة . وفي وجوب الأكل وقدر المأكول ما سبق من الخلاف . وإن كان الطعام لصبي أو مجنون ، والولي غائب فكذلك . وإن كان حاضرا فهو في مالهما ككامل الحال في ماله ، وهذه إحدى الصور التي يجوز فيها بيع مال الصبي نسيئة .

                                                                                                                                                                        المسألة التاسعة : إذا وجد المضطر ميتة ، وطعام الغير وهو غائب ، فثلاثة أوجه ، ويقال : أقوال ، أصحها : يجب أكل الميتة . والثاني : الطعام . والثالث : يتخير بينهما ، وأشار الإمام إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي . وإن كان صاحب الطعام حاضرا ، فإن بذله بلا عوض ، أو بثمن مثله ، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه ، أو رضي بذمته لزمه القبول . وإن لم يبعه إلا بزيادة كبيرة ، فالمذهب الذي قطع به العراقيون والطبريون وغيرهم : أنه لا يلزمه شراؤه ، لكن يستحب ، وإذا لم يلزمه الشراء فهو كما لو لم يبذله أصلا . وإذا لم يبذله ، لا يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على نفسه ، أو خاف إهلاك المالك في المقاتلة ، بل يعدل إلى الميتة . وإن كان لا يخاف لضعف المالك وسهولة دفعه ، فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبا . وقال في " التهذيب " : يشتريه بالثمن الغالي ، ولا يأكل الميتة . ثم يجيء الخلاف في أنه يلزمه المسمى ، أو ثمن المثل ؟ قال : وإذا لم يبذل أصلا ، وقلنا : طعام الغير أولى من الميتة ، يجوز أن يقال : يقاتله ويأخذه قهرا .

                                                                                                                                                                        العاشرة : لو اضطر محرم ولم يجد إلا صيدا ، فله ذبحه وأكله ، ويلزمه الفدية . وإن وجد صيدا وميتة ، فالمذهب : أنه يلزمه أكل الميتة . وفي قول : الصيد . وفي قول أو وجه : يتخير . وقيل : يأكل الميتة قطعا . ولو وجد المحرم لحم صيد ذبح وميتة ، فإن ذبحه حلال لنفسه ، فهذا مضطر وجد ميتة ، وطعام الغير ، وإن ذبحه هذا المحرم قبل إحرامه ، فهو واجد طعاما حلالا لنفسه ، [ ص: 290 ] فليس مضطرا . وإن ذبحه في الإحرام ، أو ذبحه محرم آخر ، فأوجه . أصحها : يتخير بينهما . والثاني : تتعين الميتة . والثالث : الصيد . ولو وجد المحرم صيدا ، وطعام الغير ، فهل يتعين الصيد ، أم الطعام ، أم يتخير ؟ فيه ثلاثة أوجه ، أو أقوال ، سواء جعلنا الصيد الذي يذبحه المحرم ميتة أم لا . وإن وجد صيدا ، وميتة ، وطعام الغير ، فسبعة أوجه : أصحها : تتعين الميتة . والثاني : الطعام . والثالث : الصيد . والرابع : يتخير بينها . والخامس : يتخير بين الطعام والميتة . والسادس : يتخير بين الصيد والميتة . والسابع : يتخير بين الصيد والطعام .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا لم نجعل ما ذبحه المحرم من الصيد ميتة ، فهل على المضطر قيمة ما يأكل منه ؟ وجهان ، بناء على القولين في أن المحرم هل يستقر ملكه على الصيد ؟

                                                                                                                                                                        الحادية عشرة : لو وجد ميتتين ، إحداهما من جنس المأكول ، دون الأخرى أو إحداهما طاهرة في الحياة دون الأخرى كشاة وحمار أو كلب فهل يتخير بينهما ، أم تتعين الشاة ؟ وجهان :

                                                                                                                                                                        قلت : ينبغي أن يكون الراجح ترك الكلب ، والتخيير بين الباقي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية عشرة : ليس للعاصي بسفره أكل الميتة حتى يتوب على الصحيح . وسبق بيانه في صلاة المسافر .

                                                                                                                                                                        الثالثة عشرة : نص الشافعي رضي الله عنه : أن المريض إذا وجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه ، جاز له تركه وأكل الميتة ، ويلزم مثله لو كان الطعام له . وعد هذا من أنواع الضرورة ، وكذا التداوي كما سبق . وسبق أيضا في أول الكتاب ، بيان الانتفاع بالنجاسات . ولو تنجس الخف . [ ص: 291 ] بخرزه بشعر الخنزير ، فغسل سبعا إحداهن بتراب ، طهر ظاهره دون باطنه ، وهو موضع الخرز . وقيل : كان الشيخ أبو زيد يصلي في الخف النوافل دون الفرائض ، فراجعه القفال فيه ، فقال : الأمر إذا ضاق اتسع ، أشار إلى كثرة النوافل .

                                                                                                                                                                        قلت : بل الظاهر أنه أراد أن هذا القدر مما تعم به البلوى ، ويتعذر أو يشق الاحتراز منه ، فعفي عنه مطلقا . وإنما كان لا يصلي فيه الفريضة احتياطا لها ، وإلا فمقتضى قوله العفو فيهما . ولا فرق بين الفريضة والنفل في اجتناب النجاسة ، ومما يدل على صحة ما تأولته ، أن القفال قال في شرحه " التلخيص " : سألت أبا زيد عن الخف يخرز بشعر الخنزير ، هل تجوز الصلاة فيه ؟ فقال : الأمر إذا ضاق اتسع ، قال القفال : مراده أن بالناس حاجة إلى الخرز به ، فللضرورة جوزنا ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية