الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة ، عن ابن عباس قال : " دخل أبو بكر -رضي الله تعالى عنه - بيت المدراس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص ، اتق الله تعالى ، وأسلم ، فوالله ، إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله تعالى من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا ، كما يزعم صاحبكم ، وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا ، فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى ، فذهب فنحاص إلى رسول الله فقال : يا محمد ، انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال رسول الله لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : "ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رسول الله ، قال قولا عظيما ، يزعم أن الله تعالى شأنه فقير ، وهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله تعالى [ ص: 141 ] مما قال فضربت وجهه ، فجحد فنحاص ، فقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية ، وأنزل في أبي بكر ، وما بلغه في ذلك من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال : يستقرضنا ربنا ، إنما يستقرض الفقير الغني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الضياء وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله حين أنزل الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ، فقالوا : يا محمد ، فقير ربك يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله تعالى الآية " ، والجمع على الروايتين الأوليين مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك ، وتخصيص هذا القول بالسماع مع أنه تعالى سميع لجميع المسموعات كناية تلويحية عن الوعيد ؛ لأن السماع لازم العلم بالمسموع ، وهو لازم الوعيد في هذا المقام ؛ فهو سماع ظهور وتهديد لا سماع قبول ورضا -كما في سمع الله لمن حمده- وإنما عبر عن ذلك بالسماع ؛ للإيذان بأنه من الشناعة والسماحة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع ، ولهذا أنكروه ، ولكون إنكارهم القول بمنزلة إنكار السمع أكده تعالى بالتأكيد القسمي ، وفيه أيضا من التشديد في التهديد ، والمبالغة في الوعيد ما لا يخفى ، والعامل في موضع إن وما عملت فيه ، قالوا : فهي المحكية به ، وجوز أن يكون ذلك معمولا لقول المضاف لأنه مصدر ، قال أبو البقاء : وهذا يخرج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو أصل ضعيف ، ويزداد هنا ضعفا بأن الثاني فعل والأول مصدر وإعمال الفعل لكونه أقوى أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      سنكتب ما قالوا أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، فالإسناد مجازي ، والكتابة حقيقة ، أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله ، فالإسناد حقيقة ، والكتابة مجاز ، والسين للتأكيد ، أي : لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته ؛ لكونه في غاية العظم والهول ، كيف لا وهو كفر بالله تعالى ، سواء كان عن اعتقاد ، أو استهزاء بالقرآن ! وهو الظاهر ، ولذلك عطف عليه قوله تعالى : وقتلهم الأنبياء بغير حق ؛ إيذانا بأنهما في العظم إخوان ، وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها ومعصية استباحوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء بغير حق في اعتقاده أيضا ، كما هو في نفس الأمر لم يستبعد منه أمثال هذا القول ، ونسبة القتل إلى هؤلاء القائلين باعتبار الرضا بفعل القاتلين من أسلافهم ، وقيل : المعنى سنجمع ما قالوا وقتلهم الأنبياء في مقام العذاب ونجزيهما جزاء مماثلا لتشاركهما في أن في كل منهما إبطالا لما جاء به المرسلون ، ولا يخفى أنه مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقول ذوقوا عذاب الحريق أي : وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      والحريق بمعنى المحرق ، وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية ، أي العذاب الذي هو المحرق؛ لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل ، كما قاله بعض المحققين ، -والذوق - كما قال الراغب ، وجود الطعم في الفم ، وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له : أكل ، ثم اتسع فيه فاستعمل ؛ لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هنا -كما قال ناصر الدين -لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال وغالب حاجة الإنسان إليه ؛ لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله للخوف من فقدانه ، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال ، ولك أن تقول : إن اليهود لما قالوا ما قالوا ، وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء غصصا [ ص: 142 ] وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف ، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون ، والقائل لهم ذلك -كما قال الضحاك- خزنة جهنم ، فالإسناد حينئذ مجازي وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبئ عن اليأس ، فقد قال الزجاج : ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو ، أي : ذق ما أنت فيه ، فلست بمتخلص منه ، والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى ، والقول للتشفي المنبئ عن كمال الغيظ والغضب ، وفيما قبلها ما لا يخفى أيضا من المبالغات ، وقرأ حمزة (سيكتب) بالياء والبناء للمفعول (وقتلهم) بالرفع ، ويقول بصيغة الغيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية