الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1854 ] لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا

                                                          * * *

                                                          في آخر الآيات السابقة أشار سبحانه إلى أن هناك طائفة تدبر التدابير للإخلال والإضرار، وأن الله تعالى مبطل مكرهم وتدبيرهم الشر، وفي هذا النص الكريم يشير إلى أن الشر لا يدبر إلا في خفاء، ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم. والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لا يكون إلا فيما يخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه، ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور، ولذا قال تعالى:

                                                          لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يقول الأصفهاني في مفرداته في بيان النجوى: إن أصل هذه المادة الانفصال عن الشيء، والنجوة والنجاة المكان المرتفع، والنجوى عنده اسم مصدر للمناجاة، وهي المسارة، وهي عنده أن تخلو بإنسان وتخاطبه كأنك تسر إليه شيئا، ولا خير في كثير من هذه المناجاة، إلا أن تكون أمرا بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. فالأمر الأول من التناجي المحمود هو الأمر بالصدقة، والصدقة هي التبرع والتطوع بفعل الخير، من إنفاق مال، أو مساعدة ضعيف، أو إنظار مدين معسر، أو ترك الدين والعفو عنه، يقول تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم [البقرة]. [ ص: 1855 ] وقال عليه الصلاة والسلام: "ما تأكله العافية فهو صدقة"، أي ما يقدمه الإنسان من قوة بدنية فهو صدقة، فمعونة الضعيف على حمل ما يحمل صدقة، وبهذا التفسير العام لكلمة الصدقة نقول: كل ما يقدم من معونة إنسانية بالبدن أو المال، عطاء أو تركا، وكل ما يتسامح فيه الإنسان: تأليفا لقلب محب، يكون صدقة، بل إن بعض العلماء جعلها تعم كل أبواب الخير، ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل معروف صدقة".

                                                          والأمر الثاني من التناجي المحمود: الأمر بالمعروف في لغة القرآن الكريم معناها ما يقره العقل ولا يستنكره، ويقوي الروابط الاجتماعية، ويقيمها على دعائم من الفضيلة ورعاية الحقوق والواجبات، فالمعروف لفظ يعم كل أعمال البر، وخصوصا الاجتماعية منها، وإن المعروف مقابل المنكر من حيث معناه، ومن حيث حكمه. فالمنكر هو كل ما يضر الإنسان والمجتمع، وهو منهي عنه، والمعروف كل ما يصلح الإنسان والمجتمع، وهو مأمور به مطلوب. فالتناجي لتدبير خطة إصلاحية، ومبادئ اجتماعية، وقيام بحق الله تعالى في إقامة مجتمع فاضل، هو من أفضل الفضائل. وإن المعروف يجب القيام به حيثما لاحت فرصته، وقد قال في ذلك الماوردي في كتابه القيم "أدب الدنيا والدين": "ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف [ ص: 1856 ] أن يجعله حذار فواته، ويبادر خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه.

                                                          والأمر الثالث الذي يصح التناجي فيه: أمر الإصلاح بين الناس، سواء كانوا جماعات وأمما، أم كانوا آحادا وأفرادا. والإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية تجب على أولي العزم من الرجال، وهي ضريبة ذي الجاه والمنزلة، فإذا كان بين اثنين خصام وأزاله، فقد قرب الله بين قلبين، وإن القضاء والفصل في الخصومات يورث في القلوب إحنا، بينما الصلح بينهم يبقي المودة. ولقد قال في ذلك الإمام عمر -رضي الله عنه- في كتابه إلى أبي موسى الأشعري : "رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن القضاء يورث بينهم الضغائن"، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصلح بين اثنين أعطاه الله تعالى بكل كلمة عتق رقبة"، وقال عليه الصلاة والسلام لأبي أيوب الأنصاري: "ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله; تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا".

                                                          والإصلاح بين الجماعات المتناحرة أوفر خيرا من إصلاح الآحاد، والله تعالى يقول: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات]. فكرر سبحانه الأمر بالإصلاح قبل القتال وبعده، وفي أثنائه.

                                                          وإن الذي أذهب النخوة من المسلمين قتال كبرائهم، وعدم وجود من يصلح ذات البين بينهم، حتى ترامى بعضهم في أحضان أعدائه وأعداء الله، وإثم ذلك على من لم يسع بالصلح، ورأب الكلم. [ ص: 1857 ] ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما العبادات في الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل إن كل عمل فيه خير إذا قصد به إرضاء الله سبحانه وتعالى يكون عبادة، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وإن محبة أي شيء لله تعالى عبادة، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله".

                                                          ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجي والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف، وإبعاد المنكر - من يفعل ذلك طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغي سواه، فإن الله تعالى سيؤتيه جزاء عظيما بالغا أقصى درجات العظمة. وسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل.

                                                          وعلى الناس من بعد أن يطلبوا مرضاة الله بقوة إيمان في كل ما يتجهون إليه من إصلاح شؤون الجماعة، فلا بركة في عمل، مهما يكن صالحا في ذاته، إلا إذا طلب به إرضاء الله، فالقوانين والنظم التعاونية والاشتراكية إذا لم يقصد بها وجه الله لا بركة فيها. فعلينا أن نتجه إلى الله في كل ما نعمل:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية