الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الركن الثاني : الصيغة . فلا يصح النذر إلا باللفظ . وفي قول قديم : تصير الشاة ونحوها هديا وأضحية بالنية وحدها ، أو بها مع التقليد كما سبق في بابه . ثم النذر قسمان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : نذر التبرر ، وهو نوعان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : نذر المجازاة ، وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة ، أو اندفاع [ ص: 294 ] بلية ، كقوله : إن شفى الله مريضي ، أو رزقني ولدا ، فلله علي إعتاق ، أو صوم ، أو صلاة . فإذا حصل المعلق عليه ، لزمه الوفاء بما التزم . ولو قال : فعلي ، ولم يقل : فلله علي ، فالصحيح : أنه كذلك . وقيل : لا بد من التصريح بذكر الله تعالى ، وهو قريب من الخلاف في وجوب الإضافة إلى الله تعالى في نية الوضوء والصلاة .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : أن يلتزم ابتداء من غير تعليق على شيء ، فيقول : لله علي أن أصلي أو أصوم أو أعتق ، فقولان . وقيل : وجهان . أظهرهما : يصح ، ويلزم الوفاء به . والثاني : لا يصح ، ولا يلزمه شيء .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو عقب النذر بالمشيئة ، فقال : لله علي كذا إن شاء الله تعالى ، لم يلزمه شيء ، كما هو في تعقيب الأيمان ، والطلاق ، والعقود . ولو قال : لله علي كذا إن شاء زيد ، لم يلزمه شيء وإن شاء زيد .

                                                                                                                                                                        القسم الثاني : نذر اللجاج والغضب ، وهو أن يمنع نفسه من فعل ، أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو بالترك . ويقال فيه : يمين اللجاج والغضب . ويقال له أيضا : يمين الغلق . ويقال : نذر الغلق - بفتح العين المعجمة واللام - فإذا قال : إن كلمت فلانا ، أو دخلت الدار ، أو إن لم أخرج من البلد ، فلله علي صوم شهر ، أو صلاة ، أو حج ، أو إعتاق رقبة ، ثم كلمه ، أو دخل ، أو لم يخرج ، ففيما يلزمه طرق . أشهرها : على ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : يلزمه الوفاء بما التزم . والثاني : يلزمه كفارة يمين . والثالث : يتخير بينهما ، وهذا الثالث هو الأظهر عند العراقيين ، لكن الأظهر على ما ذكره صاحب " التهذيب " والروياني ، وإبراهيم المروذي ، والموفق بن طاهر ، وغيرهم - وجوب [ ص: 295 ] الكفارة . والطريق الثاني : القطع بالتخيير . والثالث : نفي التخيير ، والاقتصار على القولين الأولين . والرابع : الاقتصار على التخيير وقول وجوب الكفارة ، ونفي القول الأول . والخامس : الاقتصار على التخيير ، ولزوم الوفاء ، ونفي وجوب الكفارة .

                                                                                                                                                                        قلت : الأظهر : التخيير بين الجميع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا بوجوب الكفارة ، فوفى بما التزم ، لم تسقط الكفارة على الأصح ، فإن كان الملتزم من جنس ما تتأدى به الكفارة ، فالزيادة على قدر الكفارة تقع تطوعا . وإن قلنا بالتخيير ، فلا فرق بين الحج والعمرة ، وسائر العبادات . وخرج قول : إنه يلزم الوفاء بهما خاصة ؛ لعظم أمرهما ، كما يلزمان بالشروع .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        إذا التزم على وجه اللجاج إعتاق عبد بعينه ، فإن قلنا : واجبه الوفاء بما التزم أعتقه كيف كان . وإن قلنا : عليه كفارة يمين فإن كان بحيث يجزئ [ في الكفارة ] فله أن يعتقه أو يعتق غيره ، أو يطعم ، أو يكسو . وإن كان بحيث لا يجزئ ، واختار الإعتاق ، أعتق غيره . وإن قلنا : يتخير ، فإن اختار الوفاء ، أعتقه كيف كان ، وإن اختار التكفير ، اعتبر في إعتاقه صفات الإجزاء . وإن التزم إعتاق عبيده ، فإن أوجبنا الوفاء أعتقهم . وإن أوجبنا الكفارة أعتق واحدا ، أو أطعم ، أو كسا . وإن قال : إن فعلت كذا ، فعبدي حر ، وقع العتق إذا فعله بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 296 ] فرع :

                                                                                                                                                                        لو قال : إن فعلت كذا ، فعلي نذر ، أو فلله علي نذر ، نص الشافعي - رحمه الله - : أنه يلزمه كفارة يمين ، وبهذا قطع صاحب " التهذيب " وإبراهيم المروذي . وقال القاضي حسين وغيره : هذا تفريع على قولنا : تجب الكفارة . فأما إن أوجبنا الوفاء ، فيلزمه قربة من القرب ، والتعيين إليه ، وليكن ما يعينه مما يلتزم بالنذر . وعلى قول التخيير : يتخير بين ما ذكرنا وبين الكفارة . ولو قال : إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين ، فالواجب كفارة على الأقوال كلها . ولو قال : فعلي يمين ، أو فلله علي يمين فالصحيح : أنه لغو ؛ لأنه لم يأت بنذر ولا صيغة يمين ، وليست اليمين مما يثبت في الذمة . وقيل : يلزمه كفارة يمين إذا فعله . قال الإمام : وعلى هذا ، فالوجه : أن يجعل كناية ويرجع إلى نيته . ولو قال : نذرت لله لأفعلن كذا ، فإن نوى اليمين ، فهو يمين . وإن أطلق فوجهان . ولو عدد أجناس قرب ، فقال : إن دخلت فعلي حج ، وعتق ، وصدقة ، فإن أوجبنا الوفاء ، لزمه ما التزمه ، وإن أوجبنا الكفارة ، لزمه كفارة واحدة على المذهب . وعن الشيخ أبي محمد احتمال في تعددها . ولو قال ابتداء : لله علي أن أدخل الدار اليوم ، قال في " التهذيب " : المذهب أنه يمين ، وعليه كفارة يمين إن لم يدخل . وكذا لو قال لامرأته : إن دخلت الدار ، فلله علي أن أطلقك ، فهو كقوله : إن دخلت الدار فوالله لأطلقنك حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق ، لزمه كفارة يمين . ولو قال : إن دخلت الدار فلله علي أن آكل الخبز ، فدخلها ، لزمه كفارة يمين على الصحيح . وقيل : هو لغو .

                                                                                                                                                                        [ ص: 297 ] فرع :

                                                                                                                                                                        لو قال ابتداء : مالي صدقة ، أو في سبيل الله ، ففيه أوجه :

                                                                                                                                                                        أحدها وهو الأصح عند الغزالي ، وقطع به القاضي حسين : أنه لغو ؛ لأنه لم يأت بصيغة التزام . والثاني : أنه كما لو قال : لله علي أن أتصدق بمالي ، فيلزمه التصدق . والثالث : يصير ماله بهذا اللفظ صدقة ، كما لو قال : جعلت هذه الشاة أضحية . وقال في التتمة : إن كان المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر ، أو نواه ، فهو كما لو قال : لله علي أن أتصدق بمالي أو أنفقه في سبيل الله ، وإلا فلغو . وأما إذا قال : إن كلمت فلانا ، أو فعلت كذا ، فمالي صدقة ، فالمذهب الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي - رحمه الله - : أنه بمنزلة قوله : فعلي أن أتصدق بمالي ، أو بجميع مالي . وطريق الوفاء : أن يتصدق بجميع أمواله . وإذا قال : في سبيل الله ، يتصدق بجميع أمواله على الغزاة . وقال إمام الحرمين ، والغزالي : يخرج هذا على الأوجه الثلاثة في الصورة الأولى . والمعتمد ، ما نص عليه وقاله الجمهور .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        الصيغة قد تتردد ، فتحتمل نذر التبرر ، وتحتمل نذر اللجاج ، فيرجع فيها إلى قصد الشخص وإرادته ، وفرقوا بينهما ، بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب ، وهو شفاء المريض مثلا بالتزام المسبب ، وهو القربة المسماة . وفي اللجاج يرغب عن السبب لكراهته الملتزم . وذكر الأصحاب في ضبطه ، أن الفعل إما طاعة [ ص: 298 ] وإما معصية ، وإما مباح . والالتزام في كل واحد منهما ، تارة يعلق بالإثبات ، وتارة بالنفي .

                                                                                                                                                                        أما الطاعة ، ففي طرف الإثبات يتصور نذر التبرر ، بأن يقول : إن صليت ، فلله علي صوم يوم ، معناه : إن وفقني الله للصلاة ، صمت . فإذا وفق لها ، لزمه الصوم . ويتصور اللجاج ، بأن يقال له : صل ، فيقول : لا أصلي ، وإن صليت فعلي صوم أو عتق ، فإذا صلى ، ففيما يلزمه الأقوال والطرق السابقة . وأما في طرف النفي ، فلا يتصور نذر التبرر ؛ لأنه لا بر في ترك الطاعة ، ويدخله اللجاج ، بأن يمنع من الصلاة ، فيقول : إن لم أصل ، فلله علي كذا ، فإذا لم يصل ، ففيما يلزمه الأقوال .

                                                                                                                                                                        وأما المعصية ففي طرف النفي يتصور نذر التبرر ، بأن يقول : إن لم أشرب الخمر ، فلله علي كذا ، ويقصد : إن عصمني الله من الشرب . ويتصور نذر اللجاج بأن يمنع من شربها ، ويقول : إن لم أشربها ، فلله علي صوم أو صلاة . وفي طرف الإثبات لا يتصور إلا اللجاج ، بأن يؤمر بالشرب ، فيقول : إن شربت ، فلله علي كذا .

                                                                                                                                                                        وأما المباح ، فيتصور في طرفي النفي والإثبات فيه النوعان معا . فالتبرر في الإثبات : إن أكلت كذا ، فلله علي صوم ، يريد : إن يسره الله تعالى لي . واللجاج ، أن يؤمر بأكله فيقول : إن أكلت فلله علي كذا . والتبرر في النفي : إن لم آكل كذا ، فلله علي صوم ، يريد : إن أعانني الله تعالى على كسر شهوتي فتركته . واللجاج أن يمنع من أكله فيقول : إن لم آكله فلله علي كذا . وإن قال : إن رأيت فلانا ، فعلي صوم . فإن أراد : إن رزقني الله رؤيته ، فهو نذر تبرر . وإن ذكره لكراهته رؤيته ، فهو لجاج . وفي الوسيط وجه في منع التبرر في المباح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 299 ] فرع :

                                                                                                                                                                        لا فرق في جميع ما ذكرناه بين قوله : فعلي كذا ، وبين قوله : فلله علي كذا ، هذا هو الصحيح . وفي وجه : لا يلزمه شيء إذا لم يذكر الله تعالى .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو قال : أيمان البيعة لازمة لي - قال أصحابنا : كانت البيعة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمصافحة ، فلما ولي الحجاج ، رتبها أيمانا تشتمل على ذكر اسم الله تعالى ، وعلى الطلاق ، والإعتاق ، والحج ، وصدقة المال - فإن يرد القائل الأيمان التي رتبها الحجاج ، لم يلزمه شيء . وإن أرادها نظر إن قال : فطلاقها وعتاقها لازم لي وانعقدت يمينه بهما ولا حاجة إلى النية . وإن لم يصرح بذكرهما ، لكن نواهما ، فكذلك ؛ لأنهما ينعقدان بالكناية مع النية . وإن نوى اليمين بالله تعالى ، أو لم ينو شيئا ، لم تنعقد يمينه ، ولا شيء عليه .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        نص الشافعي - رضي الله عنه - في نذر اللجاج ، أنه لو قال : إن فعلت كذا ، فلله علي نذر حج إن شاء فلان ، فشاء ، لم يكن عليه شيء . قال في التتمة : هذا إذا غلبنا في اللجاج معنى في النذر . فإن قلنا : هو يمين ، فهو كمن قال : والله لا أفعل كذا إن شاء زيد ، وسيأتي في الأيمان إن شاء الله تعالى أن من قال : والله لا أدخلها إن شاء فلان أن لا أدخلها . فإن شاء فلان ، انعقدت يمينه عند المشيئة ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية