الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 166 ] ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                                                                      ومن لم يستطع منكم "من" إما شرطية ما بعدها شرطها أو موصولة ما بعدها صلتها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل "يستطع" أي: حال كونه منكم. وقوله تعالى: طولا أو غنى وسعة، أي: اعتلاء ونيلا وأصله الزيادة والفضل مفعول لـ"يستطع". وقوله عز وجل: أن ينكح المحصنات المؤمنات إما مفعول صريح لـ"طولا" فإن إعمال المصدر المنون شائع ذائع كما في قوله تعالى: أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة كأنه قيل: ومن لم يستطع منكم أن ينال نكاحهن، وإما بتقدير حرف الجر، أي: ومن لم يستطع منكم غنى إلى نكاحهن أو لنكاحهن، فالجار في محل النصب صفة لـ"طولا" أي: طولا موصلا إليه أو كائنا له أو على نكاحهن على أن الطول بمعنى القدرة، في القاموس: الطول والطائل والطائلة الفضل والقدرة والغنى والسعة، ومحل "أن" بعد حذف الجار نصب عند سيبويه والفراء وجر عند الكسائي والأخفش، وإما بدل من "طولا" لأن الطول فضل والنكاح قدرة، وإما مفعول لـ"يستطع" و"طولا" مصدر مؤكد له لأنه بمعناه; إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز، أي: ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعة أو من جهة الطول والغنى، أي: لا من جهة الطبيعة والمزاج فإن عدم الاستطاعة من تلك الجهة لا تعلق له بالمقام، والمراد بالمحصنات: الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات فإن حريتهن أحصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان. وقوله عز وجل: فمن ما ملكت أيمانكم إما جواب للشرط أو خبر للموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط والجار متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله و"ما" موصولة، أي: فلينكح امرأة أو أمة من النوع الذي ملكته أيمانكم وهو في الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لـذلك المفعول المحذوف و"من" تبعيضية، أي: فلينكح امرأة كائنة من ذلك النوع. وقيل: "من" زائدة والموصول مفعول للفعل المقدر، أي: فلينكح ما ملكته أيمانكم. وقوله تعالى: من فتياتكم المؤمنات في محل النصب على الحالية من الضمير المقدر في "ملكت" الراجع إلى ما. وقيل: هو المفعول للفعل المقدر على زيادة "من" و "مما ملكت" متعلق بنفس الفعل و"من" لابتداء الغاية أو بمحذوف وقع حالا من فتياتكم و"من" للتبعيض، أي: فلينكح فتياتكم كائنات بعض ما ملكت أيمانكم و"المؤمنات" صفة لـ"فتياتكم" على كل تقدير. وقيل: هو المفعول للفعل المقدر و"مما ملكت" على ما تقدم آنفا و"من فتياتكم" حال من العائد المحذوف، وظاهر النظم الكريم يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية أصلا كما هو رأي أهل الحجاز وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكا بالعمومات; فمحمل الشرط والوصف هو الأفضلية ولا [ ص: 167 ] نزاع فيها لأحد. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ومما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسرا. وقوله تعالى: والله أعلم بإيمانكم جملة معترضة جئ بها لتأنيسهم بنكاح الإماء واستنزالهم من رتبة الاستنكاف منه ببيان أن مناط التفاضل ومدار التفاخر هو الإيمان دون الأحساب والأنساب على ما نطق به قوله عز قائلا: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم والمعنى: أنه تعالى أعلم منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظم أحوال العباد وعليه يدور فلك المصالح في المعاش والمعاد، ولا تعلق له بخصوص الحرية والرق فرب أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر. وقوله تعالى: بعضكم من بعض إن أريد به الاتصال من حيث الدين فهو بيان لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك وإن أريد به الاتصال من حيث النسب فهو اعتراض آخر مؤكد للتأنيس من جهة أخرى، والخطاب في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقبه قد روعي فيما سبق جانب اللفظ وههنا جانب المعنى والالتفات للاهتمام بالترغيب والتأنيس، وإما لغيرهم من المسلمين كالخطابات السابقة لحصول الترغيب بخطابهم أيضا وأيا ما كان; فإعادة الأمر بالنكاح على وجه الخطاب في قوله تعالى: فانكحوهن مع انفهامه من قوله تعالى: فمن ما ملكت أيمانكم حسبما ذكر لزيادة الترغيب في نكاحهن وتقييده بقوله تعالى: بإذن أهلهن وتصديره بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي: وإذ قد وقفتم على جلية الأمر فانكحوهن بإذن مواليهن ولا تترفعوا عنهن، وفي اشتراط إذن الموالي دون مباشرتهم للعقد إشعار بجواز مباشرتهن له. وآتوهن أجورهن أي: مهورهن. بالمعروف متعلق بـ"آتوهن" أي: أدوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء واللز حسبما يقتضيه الشرع والعادة، ومن ضرورته أن يكون الأداء إليهن بإذن الموالي فيكون ذكر إيتائهن لبيان جواز الأداء إليهن لا لكون المهور لهن. وقيل: أصله آتوا مواليهن فحذف المضاف وأوصل الفعل إلى المضاف إليه. محصنات حال من مفعول "فـانكحوهن" أي: حال كونهن عفائف عن الزنا. غير مسافحات حال مؤكدة أي: غير مجاهرات به. ولا متخذات أخدان عطف على "مسافحات" و"لا" لتأكيد ما في "غير" من معنى النفى ، الخدن : الصاحب، قال أبو زيد: الأخدان الأصدقاء على الفاحشة والواحد خدن وخدين والجمع للمقابلة بالانقسام على معنى أن لا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى أن لا يكون لها أخدان، أي: غير مجاهرات بالزنا ولا مسرات له وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى هذين القسمين. فإذا أحصن أي: بالتزويج، وقرئ على البناء للفاعل، أي: أحصن فروجهن أو أزواجهن. فإن أتين بفاحشة أي: فعلن فاحشة وهي الزنا. فعليهن فثابت عليهن شرعا. نصف ما على المحصنات أي: الحرائر الأبكار. من العذاب من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصان، فالمراد بيان عدم تفاوت حدهن بالإحصان كتفاوت حد الحرائر، فالفاء في "فإن أتين" جواب "إذا" والثانية جواب "إن" والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول كما في قولك: "إذا أتيتني فإن لم أكرمك فعبدي حر". ذلك أي: نكاح الإماء. لمن خشي العنت منكم أي: لمن خاف وقوعه في الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة، وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد [ ص: 168 ] صلاح حاله ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح. وقيل: أريد به الحد لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد، والأول هو اللائق بحال المؤمن دون الثاني لإيهامه أن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه. وأن تصبروا أي: عن نكاحهن متعففين كافين أنفسكم عما تشتهيه من المعاصي. خير لكم من نكاحهن وإن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرق، قال عمر رضي الله عنه: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة من الزنا إلا قريب ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر وعلى بيعها للحاضر والبادي وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح والعزة هي اللائقة بالمؤمنين ولأن مهرها لمولاها فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج فلا ينتظم أمر المنزل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت". والله غفور مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن وما في ذلك من الأمور المنافية لحال المؤمنين. رحيم مبالغ في الرحمة ولذلك رخص لكم في نكاحهن.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية