الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وما سلكه هؤلاء المتأخرون في إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار فهو طريق صحيح أيضا، وإن كان منهم من [ ص: 159 ] يورد على ذلك شكوكا يعجز بعضهم عن حلها، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

لكنه طريق طويل مشق لا حاجة إليه، ولهذا لم يسلكه أحد من النظار المتقدمين من أهل الكلام المحدث، فضلا عن السلف والأئمة، فشيوخ المعتزلة، والأشعرية، والكرامية، وغيرهم من أصناف أهل الكلام، أثبتوا الصانع بطريق الحدوث والإمكان وما يتعلق بذلك، من غير احتياج إلى بناء ذلك على إبطال الدور والتسلسل، كما هو الموجود في كتبهم، فلا يوجد بناء إثبات الصانع على قطع الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار في كلام مثل أبي علي الجبائي، وأبي هاشم، وعبد الجبار بن أحمد، وأبي الحسين البصري، وغيرهم. ولا في كلام مثل أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر، وأبي بكر بن فورك، وأبي إسحق الإسفراييني، وأبي المعالي الجويني، وأمثالهم. ولا في كلام محمد بن كرام، ومحمد بن الهيصم وأمثالهما، ولا في كتب من يوافق المتكلمين في كثير من طرقهم، مثل كلام أبي الحسن التميمي، والقاضي أبي يعلى، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وأمثالهم. وكذلك غير هؤلاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد [ ص: 160 ] ولا في كلام متكلمي الشيعة كالموسوي، والطوسي وأمثالهما، لا أعلم أحدا من متكلمي طوائف المسلمين جعل إثبات الصانع موقوفا على إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار، وإن كان هؤلاء يبطلون ما يبطلونه من الدور والتسلسل.

فالمقصود أنهم لم يجعلوا إثبات الصانع متوقفا عليه، بل من يذكر منهم إبطال التسلسل يذكره في مسائل الصفات والأفعال، فإن هذا فيه نزاع مشهور، فيذكرون إبطال التسلسل مطلقا في العلل والآثار لإبطال حوادث لا أول لها بدليل التطبيق ونحوه، وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة، والعلل الغائية دون الآثار، فإنهم مع اتفاقهم على بطلانه لا يحتاجون إليه في إثبات الصانع. وأما التسلسل في الآثار والشروط فهذا احتاج إليه من احتاج من نفاة ما يقوم به من المقدورات والمرادات، كالكلابية، وأكثر المعتزلة والكرامية، ومن وافق هؤلاء. [ ص: 161 ]

ومن أقدم من رأيته ذكر نفي التسلسل في إثبات واجب الوجود في المؤثرات خاصة دون الآثار ابن سينا، وهو بناه على نفي التسلسل في العلل فقط، ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهروردي المقتول وأمثاله، وكذلك الرازي والآمدي والطوسي وغيرهم.

لكن هؤلاء زادوا عليه احتياج الطريقة إلى نفي الدور أيضا. والدور القبلي مما اتفق العقلاء على نفيه، ولوضوح انتفائه لم يحتج المتقدمون والجمهور إلى ذكر ذلك، لأن المستدل بدليل ليس عليه أن يذكر كل ما قد يخطر بقلوب الجهال من الاحتمالات وينفيه، فإن هذا لا نهاية له، وإنما عليه أن ينفي من الاحتمالات ما ينقدح، ولا ريب أن انقداح الاحتمالات يختلف باختلاف الأحوال.

ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس يذكر في الأدلة من [ ص: 162 ] الاحتمالات التي ينفيها ما لا يحتاج غيره إلى ذلك، ولكن هذا لا ضابط له، كما أن الأسولة والمعارضات الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعض الناس على الأدلة لا نهاية لها، فإن هذا من باب الخواطر الفاسدة، وهذا لا يحصيه أحد إلا الله تعالى، لكن إذا وقع مثل ذلك لناظر أو مناظر، فإن الله ييسر من الهدى ما يبين له فساد ذلك، فإن هدايته لخلقه وإرشاده لهم هو بحسب حاجتهم إلى ذلك، وبحسب قبولهم الهدى وطلبهم له قصدا وعملا.

التالي السابق


الخدمات العلمية