الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 300 ] الركن الثالث : المنذور . الملتزم بالنذر : معصية ، أو طاعة ، أو مباح . فالمعصية ، كنذر شرب الخمر ، أو الزنا ، أو القتل ، أو الصلاة في حال الحدث ، أو الصوم في حال الحيض ، أو القراءة حال الجنابة ، أو نذر ذبح نفسه أو ولده ، فلا ينعقد نذره . فإن لم يفعل المعصية المنذورة ، فقد أحسن ، ولا كفارة عليه على المذهب ، وبه قطع جمهور الأصحاب . وحكى الربيع قولا في وجوبها . واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي للحديث : لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين . قال الجمهور : المراد بالحديث نذر اللجاج . قالوا : ورواية الربيع من كيسه . وحكى بعضهم الخلاف وجهين .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الحديث بهذا اللفظ ، ضعيف باتفاق المحدثين ، وإنما صح حديث عمران بن الحصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا نذر في معصية الله . رواه مسلم ، وحديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كفارة النذر كفارة اليمين . رواه مسلم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأما الطاعة فأنواع :

                                                                                                                                                                        أحدها : الواجبات ، فلا يصح نذرها ؛ لأنها واجبة بإيجاب الشرع ، فلا معنى لالتزامها ، وذلك كنذر الصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ، ولا يزني . وسواء علق ذلك بحصول نعمة ، أو التزمه ابتداء . [ ص: 301 ] وإذا خالف ما ذكره ، ففي لزوم الكفارة ما سبق في قسم المعصية . وادعى صاحب " التهذيب " أن الظاهر هنا وجوبها .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : العبادات المقصودة ، وهي التي شرعت للتقرب بها . وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق إيقاعها عبادة ، كالصوم والصلاة والصدقة والحج والاعتكاف والعتق ، فهذه تلزم بالنذر بلا خلاف . قال الإمام : وفروض الكفاية التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو مقاساة مشقة ، تلزم بالنذر أيضا ، كالجهاد وتجهيز الموتى . ويجيء مما سنذكره إن شاء الله تعالى في نذر السنن الراتبة وجه : أنها لا تلزم . وعن القفال : أن من نذر الجهاد ، لا يلزمه شيء . وفي صلاة الجنازة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وما ليس فيه بذل مال ، ولا كبير مشقة وجهان . أصحهما : لزومها بالنذر أيضا .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        كما يلزم أصل العبادة بالنذر ، يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا شرطت في النذر ، كمن شرط في الصلاة المنذورة إطالة القيام ، أو الركوع أو السجود . أو شرط المشي في الحجة الملتزمة إذا قلنا : المشي في الحج أفضل من الركوب ، فلو أفردت الصفة بالنذر ، والأصل واجب شرعا ، كتطويل القراءة والركوع والسجود في الفرائض ، أو أن يقرأ في الصبح مثلا سورة كذا ، أو أن يصلي الفرض في جماعة ، فالأصح : لزومها ؛ لأنها طاعة . والثاني : لا ؛ لئلا تغير عما وضعها الشرع عليه . ولو نذر فعل السنن الراتبة ، كالوتر ، وسنة الفجر ، والظهر ، فعلى الوجهين . ولو نذر صوم رمضان في السفر ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما ، وبه قطع في الوجيز ، ونقله إبراهيم المروذي عن عامة الأصحاب : لا ينعقد نذره ، وله الفطر ؛ لأنه التزام يبطل رخصة الشرع . والثاني ، وهو اختيار القاضي حسين وصاحب " التهذيب " : انعقاده ولزوم الوفاء كسائر المستحبات . ويجري الوجهان ، فيمن نذر إتمام الصلاة [ ص: 302 ] في السفر ، إذا قلنا : الإتمام أفضل . ويجريان فيمن نذر القيام في النوافل ، أو استيعاب الرأس بالمسح ، أو التثليث في الوضوء أو الغسل ، أو أن يسجد للتلاوة والشكر عند مقتضيهما . قال الإمام : وعلى مساق الوجه ، لو نذر المريض القيام في الصلاة وتكلف المشقة ، أو نذر صوما ، وشرط أن لا يفطر بالمرض ، لم يلزم الوفاء ؛ لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعا ، والمرض مرخص .

                                                                                                                                                                        النوع الثالث : القربات التي لم تشرع لكونها عبادة ، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها . وقد يبتغى بها وجه الله تعالى ، فينال الثواب فيها ، كعيادة المرضى ، وزيارة القادمين ، وإفشاء السلام بين المسلمين ، وتشميت العاطس . وفي لزومها بالنذر ، وجهان . الصحيح : اللزوم . ويلزم تجديد الوضوء بالنذر على الأصح . قال في التتمة : لو نذر الاغتسال لكل صلاة ، لزمه الوفاء ، وليبن هذا على أن تجديد الغسل ، هل يستحب ؟ قال : ولو نذر الوضوء ، انعقد نذره ولا يخرج عنه بالوضوء عن حدث ، بل بالتجديد .

                                                                                                                                                                        قلت : جزم أيضا بانعقاد نذر الوضوء ، القاضي حسين . وفي " التهذيب " وجه ضعيف : أنه لا يلزم . وقولهم : لا يخرج عن النذر إلا بالتجديد ، معناه : بالتجديد حيث يشرع ، وهو أن يكون قد صلى بالأول صلاة ما ، على الأصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        قال : ولو نذر أن يتوضأ لكل صلاة ، لزم الوضوء لكل صلاة . وإذا توضأ لها عن حدث ، لا يلزمه الوضوء لها ثانيا ، بل يكفي الوضوء الواحد عن واجبي الشرع والنذر . قال : ولو نذر التيمم ، لم ينعقد على المذهب . قال : ولو نذر أن لا يهرب من ثلاثة فصاعدا من الكفار ، فإن علم من نفسه القدرة على مقاومتهم ، انعقد نذره ، وإلا ، فلا . وفي كلام الإمام : أنه لا يلزم بالنذر انكفاف قط ، حتى لو نذر أن لا يفعل مكروها ، لا ينعقد نذره . ولو نذر أن يحرم بالحج في شوال ، أو من بلد كذا ، لزمه على الأصح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 303 ] وأما المباح فالذي لم يرد فيه ترغيب ، كالأكل ، والنوم ، والقيام ، والقعود ، فلو نذر فعلها أو تركها ، لم ينعقد نذره . قال الأئمة : وقد يقصد بالأكل التقوي على العبادة ، وبالنوم النشاط عند التهجد ، فينال الثواب ، لكن الفعل غير مقصود ، والثواب يحصل بالقصد الجميل . وهل يكون نذر المباح يمينا توجب الكفارة عند المخالفة ؟ فيه ما سبق في نذر المعاصي والفرض . وقطع القاضي بوجوب الكفارة في المباح ، وذكر في المعصية وجهين ، وعلق الكفارة باللفظ من غير حنث ، وهذا لا يتحقق ثبوته . والصواب في كيفية الخلاف ما قدمناه .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو نذر الجهاد في جهة بعينها ، ففي تعيينها أوجه .

                                                                                                                                                                        قال صاحب التلخيص : يتعين ، لاختلاف الجهات . وقال أبو زيد : لا يتعين ، بل يجزئه أن يجاهد في جهة أسهل وأقرب منها . وقال الشيخ أبو علي : وهو الأصح الأعدل ، لا يتعين ، لكن يجب أن تكون التي يجاهد فيها كالمعينة في المسافة والمؤنة ، وتجعل مسافات الجهات كمسافات مواقيت الحج .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        يشترط في القربة المالية ، كالصدقة ، والتضحية ، والإعتاق ، أن يلتزمها في الذمة ، أو يضيف إلى معين يملكه . فإن كان لغيره ، لم ينعقد نذره قطعا ، ولا كفارة عليه على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وذكر في التتمة في لزومها وجهين ، وهو شاذ . قال في التتمة : لو قال : إن ملكت عبدا فلله علي أن أعتقه ، انعقد نذره . قال : ولو قال : إن شفى الله مريضي ، [ ص: 304 ] ، فكل عبد أملكه حر ، أو فعبد فلان حر إن ملكته ، لم ينعقد نذره قطعا ؛ لأنه لم يلتزم التقرب بقربة ، لكنه علق الحرية بعد حصول النعمة بشرط ، وليس هو مالكا في حال التعليق ، فلغا ، كما لو قال : إن ملكت عبدا أو عبد فلان ، فهو حر ، فإنه لا يصح قطعا . قال : ولو قال : إن شفى الله مريضي ، فعبدي حر إن دخل الدار ، انعقد ؛ لأنه مالكه ، وقد علقه بصفتين ، الشفاء ، والدخول . قال : ولو قال : إن شفى الله مريضي ، فلله علي أن أشتري عبدا وأعتقه ، انعقد .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        قال : في " التهذيب " في باب الاستسقاء : لو نذر الإمام أن يستسقي ، لزمه أن يخرج في الناس ويصلي بهم . ولو نذره واحد من الناس ، لزمه أن يصلي منفردا . وإن نذر أن يستسقي بالناس ، لم ينعقد ؛ لأنهم لا يطيعونه . ولو نذر أن يخطب وهو من أهله ، لزمه . وهل له أن يخطب قاعدا مع استطاعته القيام ؟ فيه خلاف كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الصلاة المنذورة .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        سئل الغزالي - رحمه الله - في فتاويه عما لو قال البائع للمشتري : إن خرج المبيع مستحقا ، فلله علي أن أهبك ألف دينار ، فهل يصح هذا النذر ، أم لا ؟ وإن حكم حاكم بصحته ، هل يلزمه ؟ فأجاب بأن المباحات لا تلزم بالنذر ، وهذا مباح ، ولا يؤثر فيه قضاء القاضي ، إلا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك النذر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 305 ] فرع :

                                                                                                                                                                        قال بعضهم : لو نذر أن يكسو يتيما لم يخرج عن نذره باليتيم الذمي ؛ لأن مطلقه في الشرع للمسلم .

                                                                                                                                                                        قلت : ينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع ، أو جائزه ، كما لو نذر إعتاق رقبة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية