الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 619 ] 11 - باب: إذا قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : فجعل خالد يقتل؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أبرأ إليك مما صنع خالد".

                                                                                                                                                                                                                              وقال عمر - رضي الله عنه - : إذا قال: مترس. فقد آمنه، إن الله يعلم الألسنة كلها. وقال: تكلم لا بأس. [انظر: 3159 - فتح: 6 \ 274]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              تعليق ابن عمر أسنده في المغازي، فقال: حدثني محمود، أنا عبد الرزاق: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالدا إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، فلما قدمنا ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين، ويأتي في الأحكام أيضا، ومقصود البخاري منه لفظة: صبأنا، ولم يذكرها وكأنه أحال على أصله.

                                                                                                                                                                                                                              وأثر عمر أخرجه مالك في: "الموطأ" عن رجل من أهل الكوفة عنه: أنه كتب إلى عامله حين كان بعثه: إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا أسند في الجبل وامتنع قال رجل: مترس - وفي رواية: "مطرس" يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإني والذي [ ص: 620 ] نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه.

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك: وليس على هذا العمل، في قتل المسلم بالكافر. وعليه العمل في جواز التأمين. قاله ابن بطال .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه البيهقي من حديث الأعمش، عن أبي وائل قال: جاءنا كتاب عمرو: إذا قال الرجل للرجل: لا تخف، فقد آمنه، وإذا قال: مترس، فقد أمنه، فإن الله يعلم الألسنة، وفي رواية له: "وإذا قال: لا تذهل، فقد أمنه، فإن الله يعلم الألسنة".

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              (مترس) بفتح الميم والتاء وسكون الراء، كذا ضبطه الأصيلي، وضبطه غيره بفتح الراء، وضبطه أبو ذر بكسر الميم، وسكون الراء، وأهل خراسان كانوا يقولون ليحيى بن يحيى في "الموطأ": مترس.

                                                                                                                                                                                                                              قال عياض: معناها في لسان العجم: لا بأس، وقال ابن الأثير: هي لفظة فارسية أي: لا تخف، وبخط الدمياطي في الأصل: مترس - بفتح الميم والتاء وسكون الراء - ، وكتب في الحاشية: مترس ومترس.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: أو قال: تكلم لا بأس، هو من قول عمر، وقد أسلفناه في الجزية والموادعة قريبا، وأخرجه ابن أبي شيبة عن مروان بن معاوية، عن حميد، عن أنس قال: حاصرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 621 ] عمر بن الخطاب، فلما قدم عليه استعجم فقال عمر: تكلم، لا بأس عليك، فكان ذلك عهدا وتأمينا من عمر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              مقصود البخاري بالترجمة: أن المفاسد تعتبر بأدلتها كيف ما كانت الأدلة لفظية أو غيرها على وفق لغة العرب أو غيرها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال : غرض البخاري في الباب نحو ما تقدم ممن تكلم بالفارسية والرطانة، وقوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم [الروم: 22] فذكر ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تكلم فيه بألفاظ الفارسية كانت متعارفة عندهم، خاطب بها أصحابه ففهموها عنه، فالمراد من هذين البابين أن العجم إذا قالوا: صبأنا وأرادوا بذلك الإسلام، فقد حقنوا بها دماءهم ووجب لهم الأمان

                                                                                                                                                                                                                              ألا ترى قول عمر: مترس، فسواء خاطبنا العجم بلغتهم أو خاطبناهم بها على معنى الأمان، فقد لزم الأمان وحرم القتل.

                                                                                                                                                                                                                              ولا خلاف بين العلماء أن من أمن حربيا بأي كلام يفهم منه الأمان فقد تم له الأمان، وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانا، وهو قول مالك والشافعي وجماعة؛ لأن التأمين إنما هو معنى في النفس فيظهر تارة بالكتابة، وتارة بالإشارة، وتارة بالنطق.

                                                                                                                                                                                                                              ولم يفهم خالد من قوله: صبأنا، أنهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللفظة على ظاهرها، وتأولها أنها في معنى الكفر، فلذلك قتلهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثم تبين أنهم أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا: صبأنا. وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشا كانت تقول لمن أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صبأ

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 622 ] فلان، حتى صارت هذه اللفظة معروفة عند الكفار وعادة جارية، فقالها هؤلاء القوم، فتأولها خالد على وجهها، فعذره الشارع بتأويله ولم يقد منه.

                                                                                                                                                                                                                              وستعرف اختلاف العلماء في الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فقتل من لا يجب عليه القتل من ضمان ذلك في الأحكام، في باب إذا قضى القاضي بجور، وسيأتي نبذة منه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حبيب في أثر عمر: إنه تشديد منه.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر عن بعض العلماء أنه يجعل قيمته في المغنم.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              التأمين يصح بكل لسان عربي أو غيره كما سلف، سواء فهمه المؤمن أو لا. وكذلك إن ظن الحربي أنه آمنه وإن لم يؤمنه. قال محمد: إذا طلبوا مركبا للعدو فقال: أرخ قلعك، فإنه أمان إن كان قبل الظفر بهم وهم على رجاء من النجاة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : إنما نقم على خالد استعجاله؛ لأن الصبأ مقتضاه الخروج من دين إلى دين، يحتمل أن يكون خالد لم يكف عنهم؛ ظنا منه إنما عدلوا عن اسم الإسلام إلى صبأنا أنفة من الاستسلام والانقياد، فلم يره إقرارا بالدين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 623 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              لا خلاف كما قال ابن بطال أن القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط والضمان لازم عند عامة أهل العلم. إلا أنهم اختلفوا في ضمان ذلك. فإن كان في قتل أو جرح ففي بيت المال، وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقالت طائفة: هي على عاقلة الإمام أو الحاكم، وهذا قول الأوزاعي ومحمد وأبي يوسف والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الماجشون: ليس على الحاكم شيء من الدية في ماله ولا على عاقلته ولا في بيت المال.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              الصابئ: من خرج من دين إلى دين، يقال: صبأ فهو صابئ وهم الصابئون؛ وذلك لأنهم خرجوا من اليهودية إلى النصرانية.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنما يقال: صبأ يصبو بغير همز فهو صابئ بالهمز. وقول عمر: ما صبوت، يدل على ترك الهمز. ويجوز أن يكون هذا على تخفيف الهمز، ذكره القزاز، وفي "المحكم": يزعمون أنهم على دين نوح - عليه السلام - ، بكذبهم، وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عياض: ومنهم من يعبد الملائكة الدراري.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية