الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين - سبحانه - وجه استحقاق بعض المفضلين؛ فقال - جوابا لسؤال من كأنه قال: ما للرجال فضلوا؟ - الرجال قوامون ؛ أي: قيام الولاة؛ على النساء ؛ في التأديب؛ والتعليم؛ وكل أمر ونهي؛ وبين سببي ذلك بقوله: بما فضل الله ؛ أي: الذي له الحكمة البالغة والكمال الذي لا يدانى؛ هبة منه؛ وفضلا؛ من غير تكسب؛ بعضهم ؛ وهم الرجال؛ في العقل؛ والقوة؛ والشجاعة؛ ولهذا كان فيهم الأنبياء؛ والولاة؛ والإمامة الكبرى؛ والولاية في النكاح؛ ونحو ذلك؛ من كل أمر يحتاج إلى فضل قوة في البدن؛ والعقل؛ والدين؛ على بعض ؛ يعني النساء؛ فقال للرجال: انفروا خفافا وثقالا ؛ وقال للنساء: وقرن في بيوتكن [ ص: 270 ] ولما ذكر السبب الموهبي أتبعه الكسبي؛ فقال: وبما أنفقوا ؛ أي: من المهور؛ والكسى؛ وغيرها؛ من أموالهم ؛ أي: عليهن؛ فصارت الزيادة في أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بان بذلك فضلهم؛ فأذعنت النفس لما فضلوا به في الإرث؛ وغيره؛ وكان قد تقدم ذكر نكاحهم للنساء؛ والحث على العدل فيهن; حسن بيان ما يلزم الزوجات من حقوقهم؛ وتأديب من جحدت الحق؛ فقال - مسببا لما يلزمهن من حقوقهم؛ عما ذكر من فضلهم -: فالصالحات قانتات ؛ أي: مخلصات في طاعة الأزواج؛ ولذلك ترتب عليه؛ حافظات للغيب ؛ أي: لحقوق الأزواج؛ من الأنفس؛ والبيوت؛ والأموال؛ في غيبتهم عنهن؛ بما ؛ أي: بالأمر الذي؛ حفظ الله ؛ أي: المحيط علما؛ وقدرة؛ به غيبتهم؛ بفعله فيه فعل من يحفظ؛ من الترغيب في طاعتهم فيما يرضي الله؛ والترهيب من عصيانهم بما يسخطه؛ ورعي الحدود التي أشار إليها - سبحانه - من "البقرة"؛ وشرحتها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما عرف بالصالحات لاستحقاق الإنفاق في اللوازم؛ أتبعه حكم غيرهن؛ فقال: واللاتي تخافون نشوزهن ؛ أي: ترفعهن عليكم عن [ ص: 271 ] الرتبة التي أقامهن الله بها؛ وعصيانهن لكم فيما جعل الله لكم من الحق؛ وأصل النشوز: الانزعاج في ارتفاع؛ قال الشافعي : دلالات النشوز قد تكون قولا؛ وقد تكون فعلا؛ فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها؛ وتخضع له بالقول إذا خاطبها؛ ثم تغيرت; والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا دخل إليها؛ أو كانت تسارع إلى أمره؛ وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها؛ ثم إذا تغيرت فحينئذ ظن نشوزها; ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز؛ فعظوهن ؛ أي: ذكروهن من أمر الله؛ بما يصدع قلوبهن؛ ويرققها؛ ويخيفهن من جلال الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الوعظ موجبا لتحقق الطاعة؛ أو المعصية؛ قال: واهجروهن ؛ أي: إن لم يرجعن بالوعظ؛ في المضاجع ؛ أي: التي كنتم تبيتون معهن فيها؛ من البيت؛ وفي ضمن الهجر امتناعه من كلامها; قال الشافعي : ولا يزيد في هجرة الكلام على ثلاث؛ واضربوهن ؛ أي: إن أصررن؛ ضرب تأديب؛ غير مبرح؛ وهو ما لا يكسر عظما؛ ولا يشين عضوا؛ ويكون مفرقا على بدنها؛ ولا يوالي به في موضع واحد؛ ويتقي الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن؛ ويكون دون الأربعين; قال الشافعي : الضرب مباح؛ وتركه أفضل؛ فإن أطعنكم ؛ أي: بشيء من الوعظ؛ [ ص: 272 ] والهجر في موضع المبيت من البيت؛ أو الضرب؛ فلا تبغوا ؛ أي: تطلبوا؛ عليهن سبيلا ؛ أي: طريقا إلى الأذى؛ على ما سلف من العصيان؛ من توبيخ على ما سلف نحوه؛ بما لكم عليهن من العلو؛ بل اغفروا لهن ما سلف؛ ولا يحملنكم ما منحكم الله من العلو على المناقشة؛ ثم علل ذلك بقوله: إن الله ؛ أي: وقد علمتم ما له من الكمال؛ كان ؛ ولم يزل؛ عليا كبيرا ؛ أي: له العلو والكبر؛ على الإطلاق؛ بكمال القدرة؛ ونفوذ المشيئة؛ فهو لا يحب الباغي؛ ولا يقره على بغيه؛ وقدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن؛ وهو مع ذلك يعفو عمن عصاه؛ وإن ملأ الأرض خطايا؛ إذا أطاعه؛ ولا يؤاخذه بشيء مما فرط في حقه؛ بل يبدل سيئاته حسنات؛ فلو أخذكم بذنوبكم أهلككم; فتخلقوا بما قدرتم عليه من صفاته؛ لتنالوا جليل هباته؛ وخافوا سطواته؛ واحذروا عقوبته؛ بما له من العلو والكبر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية