الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى " إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بالجميع ، لقوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه } وإن نذر أن يعتق رقبة ففيه وجهان ( أحدهما ) يجزئه ما يقع عليه الاسم اعتبارا بلفظه ( والثاني ) لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة [ ص: 450 ] لأن الرقبة التي يجب عتقها بالشرع ما يجب بالكفارة فحمل النذر عليه وإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه أن يعتقها ، ولا يزول ملكه عنها حتى يعتقها ، فإن أراد بيعها أو إبدالها بغيرها لم يجز ; لأنه تعين للقربة فلا يملك بيعه كالوقف ، وإن تلف أو أتلفه لم يلزمه بدله ; لأن الحق للعبد فسقط بموته ، وإن أتلفه أجنبي وجبت القيمة للمولى ولا يلزمه صرفها في عبد آخر لما ذكرناه .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الحديث المذكور صحيح سبق بيانه أول الكتاب ، ثم في الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه الصدقة بجميع ماله لما ذكره المصنف وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه : يكفيه أن يتصدق بثلثه . دليلنا أن اسم المال يقع على الجميع . أما إذا قال مالي صدقة فقد سبق بيانه مع ما يتعلق به قريبا . ولو قال : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بشيء صح نذره ويجزئه التصدق بما شاء من قليل وكثير . ونقل الرافعي أنه لو قال : لله علي ألف ولم يعين شيئا باللفظ ولا بالنية لم يلزمه شيء . .



                                      ( الثانية ) إذا نذر إعتاق رقبة فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) يجزئه إعتاق ما يسمى رقبة ، وإن كانت معيبة وكافرة ، وهو ظاهر نص الشافعي ، فإنه قال : أعتق رقبة أية رقبة كانت ( والثاني ) لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة . وبنى أصحابنا هذا الخلاف على أصل مفهوم من معاني كلام الشافعي رحمه الله ، وهو أن الناذر إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقها فلم يصفها فعلى أي شيء يحمل نذره ؟ وفيه قولان مفهومان من معاني كلام الشافعي ( أحدهما ) ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع ، ; لأن المنذور واجب فجعل كواجب الشرع ابتداء ( والثاني ) ينزل على أقل ما يصح من جنسه وقد يقولون : على أقل جائز الشرع ; لأن لفظ الناذر لا يقتضي زيادة عليه ، والأصل براءته . قال الرافعي : وهذا الثاني أصح [ ص: 451 ] عند إمام الحرمين والغزالي ، قال : والأول هو الصحيح عند العراقيين والروياني وغيرهم .

                                      ( قلت ) : الصواب أن يقال : إن الصحيح يختلف باختلاف المسائل ، ففي بعضها يصححون القول الأول وفي بعضها الثاني ، وهذا ظاهر يعلم من استقراء كلام الأصحاب في المسائل المخرجة على هذا الأصل فمن ذلك من نذر صوما ، الأصح وجوب تبييت النية ترجيحا للقول الأول ، وقطع به كثيرون ، ولو نذر صلاة لزمه ركعتان على الصحيح باتفاقهم ، ترجيحا للقول الأول أيضا ، وكذا لا يجوز الجمع بين صلاتين منذورتين بتيمم واحد على الصحيح باتفاقهم ترجيحا للقول الأول وغير ذلك من المسائل التي رجح فيها القول الأول ، ومما رجح فيه القول الثاني ما لو نذر إعتاق رقبة فإن الأصح أنه يجزئ المعيبة والكافرة ترجيحا للقول الثاني فحصل أن الصحيح يختلف باختلاف الصور . ويجوز أن يقال : مراد الجمهور بتصحيح القول الأول أنه الأصح مطلقا إلا في مسألة الاعتكاف ، وإنما اختلف الأصح في هذه المسألة وسائر المسائل ; لأن الإعتاق ليس له عرف مطرد أو غالب يحمل عليه بل وقوع عتق التطوع في العادة أكثر من العتق الواجب ، فحمل العتق المطلق بالنذر على مسمى الرقبة . وأما الصوم فيصح فيه عموم قوله صلى الله عليه وسلم { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } فخرج النفل بدليل ، وبقي النذر داخلا في العموم ، وهكذا الأصل صح فيها قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الليل والنهار مثنى مثنى } فخرج جواز التنفل بركعة بدليل ، وبقي النذر داخلا في العموم ، وكذا يقال في التيمم وغيره ، والله أعلم .

                                      فالحاصل أن الصحيح عند الجمهور أنه ينزل النذر في صفاته على صفات واجب الشرع إلا في الإعتاق ، وهذا الخلاف في صفاته . وأما أصل فعله والوفاء به فواجب بلا خلاف . قال أصحابنا : ويبنى على القولين في تنزيل النذر مسائل ( منها ) لو نذر أن يصلي وأطلق إن قلنا بالقول الأول وهو التنزيل على واجب الشرع لزمه ركعتان وهو [ ص: 452 ] المنصوص وإلا فركعة ( ومنها ) جواز صلاته قاعدا مع القدرة على القيام فيها وجهان بناء عليها . ولو نذر أن يصلي قاعدا جاز القعود قطعا ، كما لو صرح بنذر ركعة فإنها تجزئه بلا خلاف ، فإن صلى قائما فهو أفضل . ولو نذر أن يصلي قائما لزمه القيام قطعا ولو نذر أن يصلي ركعتين فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو تشهدين فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع البغوي جوازه ( والثاني ) فيه وجهان ، وهو الذي ذكره المتولي . قال الرافعي : ويمكن بناؤه على الأصل ، فإن نزلنا النذر على جائز الشرع أجزأه وإلا فلا ، كما لو صلى الصبح أربعا . وإن نذر أربع ركعات ، فإن نزلنا على واجب الشرع أمرناه بتشهدين ، فإن ترك الأول يسجد للسهو ، ولا يجوز أداؤها بتسليمتين ، وإن نزلنا على الجائز فهو بالخيار إن شاء أداها بتشهد ، وإن شاء أداها بتشهدين ، ويجوز بتسليمة وبتسليمتين ، وهو أفضل كما هو في النوافل ، هكذا نقلوه ( والأصح ) أنه يجوز بتسليمتين على القولين ، والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل المخرجة على هذا الأصل ظاهر ; لأنه يسمى مصليا أربع ركعات كيف صلاها ، ولو نذر صلاتين لم تجزئه أربع ركعات بتسليمة واحدة ، ولو نذر أن يصلي ركعتين على الأرض مستقبل القبلة لم يجز فعلهما على الراحلة ، ولو نذر فعلهما على الراحلة فله فعلهما على الأرض مستقبلا ، وإن أطلق فعلى أيهما يحمل ؟ فيه خلاف مبني على هذا الأصل ، والله أعلم .

                                      أما إذا نذر أن يتصدق فإنه لا يحمل على خمسة دراهم أو نصف دينار بلا خلاف بل يجزئه أن يتصدق بدانق ودونه مما يتمول ; لأن الصدقة الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب الذهب والفضة ، بل تكون في صدقة الفطر وفي الخلطة ، ويتصور إيجاب دانق ودونه من الذهب والفضة أيضا في الزكاة إذا تلف معظم النصاب بعد الحول وقبل التمكن ، وقلنا : التمكن شرط في الضمان ، وهو الصحيح كما سبق في بابه ، والله أعلم .

                                      [ ص: 453 ] ومنها ) إذا نذر إعتاق رقبة ، فإن نزلنا على واجب الشرع وجبت رقبة مؤمنة سليمة وهو الأصح عند الداركي ، وإلا أجزأه كافرة معيبة ، وهو الصحيح عند الأكثرين ، منهم المحاملي والمصنف في التنبيه والشاشي وآخرون وهو الراجح في الدليل كما سبق ، فلو قيد فقال : لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة لم يجزه الكافرة ولا المعيبة بلا خلاف ، ولو قال كافرة أو معيبة أجزأته بلا خلاف ، فلو أعتق مؤمنة سليمة فقيل لا تجزئه ; لأنها غير ما التزمه ( والصحيح ) الذي عليه الجمهور أنها تجزئه ; لأنها أكمل ، وذكر الكفر والعيب ليس للتقرب ، بل لجواز الاقتصار على الناقص ، فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة يجوز له التصدق بالجيدة . ولو قال : علي أن أعتق هذا الكافر أو المعيب ، لم يجزه غيره لتعلق النذر بعينه . أما إذا نذر أن يعتكف فليس من جنس الاعتكاف واجب بالشرع ، وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث أم يكفي المرور في المسجد مع النية ؟ والأول أصح ، فعلى هذا يشترط لبث ويخرج عن النذر بلبث ساعة ، ويستحب أن يمكث يوما ، وإن اكتفينا بالمرور في أصل الاعتكاف فلإمام الحرمين احتمالان ( أحدهما ) يشترط لبث ; لأن لفظ الاعتكاف يشعر به ( والثاني ) لا ، حملا له على حقيقته شرعا ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثالثة ) إذا نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه إعتاقها ، ولا يزول ملكه عنها بمجرد النذر ، فإن أراد بيعها أو هبتها أو الوصية بها أو إبدالها بغيرها لم يجز وإن تلفت أو أتلفها لم يلزمه بدلها ، وإن أتلفها أجنبي لزمه القيمة للمولى ويتصرف فيها المولى بما شاء ولا يلزمه أن يشتري بها رقبة يعتقها ، ودليل جميع هذه الصور في الكتاب ، وفيه الفرق بينه وبين الهدي والأضحية المنذورتين ، وقد سبقت المسألة بفروعها وإيضاح الفرق في باب الهدي ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية