الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 454 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن نذر هديا نظرت فإن سماه كالثوب والعبد والدار لزمه ما سماه ، وإن أطلق الهدي ففيه قولان ، قال في الإملاء والقديم : يهدي ما شاء ; لأن اسم الهدي يقع عليه ، ولهذا يقال : أهديت له دارا وأهدى لي ثوبا ، ولأن الجميع يسمى قربانا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الجمعة { من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة } فإذا سمي قربانا وجب أن يسمى هديا ، وقال في الجديد : لا يجزئه إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر ; لأن الهدي المعهود في الشرع ما ذكرناه فحمل مطلق النذر عليه . وإن نذر بدنة أو بقرة أو شاة ، فإن قلنا بالقول الأول أجزأه من ذلك ما يقع عليه الاسم ، وإن قلنا بالقول الثاني لم يجزه إلا ما يجزئ في الأضحية ، وإن نذر شاة فأهدى بدنة أجزأه ; لأن البدنة بسبع من الغنم ، وهل يجب الجميع ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) أن الجميع واجب ; لأنه مخير بين الشاة والبدنة فأيهما فعل كان واجبا ، كما نقول في العتق والإطعام في كفارة اليمين ( والثاني ) أن الواجب هو السبع ; لأن كل سبع منها بشاة ، فكان الواجب هو السبع . وإن نذر بدنة وهو واجد البدنة ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم ; لأن كل واحد من الثلاثة قائم مقام الآخر ( والثاني ) أنه لا يجزئه غير البدنة ; لأنه عينها بالنذر ، وإن كان عادما للبدنة انتقل إلى البقرة ، فإن لم يجد بقرة انتقل إلى سبع من الغنم .

                                      ومن أصحابنا من قال : لا يجزئه غير البدنة فإن لم يجد ثبتت في ذمته إلى أن يجد ; لأنه التزم ذلك بالنذر ، والمذهب الأول ، ; لأنه فرض له بدل فانتقل عند العجز إلى بدله كالوضوء . وإن نذر الهدي للحرم لزمه في الحرم ، وإن نذر لبلد آخر لزمه في البلد الذي سماه ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ، مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية ، قال : لصنم ؟ قالت : لا ؟ قال : لوثن ؟ قالت : لا قال : أوفي بنذرك } فإن نذر لأفضل بلد لزمه بمكة ; لأنها أفضل البلاد ، والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته { أي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : بلدنا هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، [ ص: 455 ] كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا } ولأن مسجدها أفضل المساجد فدل على أنها أفضل البلاد . وإن أطلق النذر ففيه وجهان ( أحدهما ) يجوز حيث شاء ; لأن الاسم يقع عليه ( والثاني ) لا يجوز إلا في الحرم ; لأن الهدي المعهود في الشرع هو الهدي في الحرم ، والدليل عليه قوله تعالى { هديا بالغ الكعبة } وقال تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } فحمل مطلق النذر عليه فإن كان قد نذر الهدي لرتاج الكعبة أو عمارة مسجد ، لزمه صرفه فيما نذر ، فإن أطلق ففيه وجهان ( أحدهما ) أن له أن يصرفه فيما شاء من وجوه القرب ، في ذلك البلد الذي نذر الهدي فيه ; لأن الاسم يقع عليه ، ( والثاني ) أنه يفرقه على مساكين البلد الذي نذر أن يهدي إليه ; لأن الهدي المعهود في الشرع ما يفرق على المساكين فحمل مطلق النذر عليه .

                                      وإن كان ما نذره مما لا يمكن نقله كالدار ، باعه ونقل ثمنه إلى حيث نذر وإن نذر النحر في الحرم ففيه وجهان ( أحدهما ) يلزمه النحر دون التفرقة ; لأنه نذر أحد مقصودي الهدي ، فلم يلزمه الآخر ، كما لو نذر التفرقة ( والثاني ) يلزمه النحر والتفرقة ، وهو الصحيح ; لأن نحر الهدي في الحرم في عرف الشرع ما يتبعه التفرقة فحمل مطلق النذر عليه ، وإن نذر النحر في بلد غير الحرم ففيه وجهان ( أحدهما ) لا يصح ، ; لأن النحر في غير الحرم ليس بقربة فلم يلزمه بالنذر ، ( والثاني ) يلزم النحر والتفرقة ، ; لأن النحر على وجه القربة لا يكون إلا للتفرقة فإذا نذر النحر تضمن التفرقة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث { من راح في الساعة الأولى } رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة وسبق بيان طرقه وشرحه في صلاة الجمعة وحديث عمرو بن شعيب غريب ، ولكن معناه مشهور من رواية ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه قال : { نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ [ ص: 456 ] قالوا : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ( وأما ) حديث جابر بهذا اللفظ فغريب عنه ، ورواه البخاري بهذا اللفظ في صحيحه في أول كتاب الحدود في باب ظهر المؤمن حمى من رواية ابن عمر رضي الله عنهما ويستدل معه أيضا بحديث عدي ابن الحمراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وقف في مكة وأشار إليها وقال : والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت } رواه الترمذي وغيره ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، وسبق بيانه وبيان ما يتعلق به وما يعارضه في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام ، والله أعلم .

                                      ( أما ألفاظ الفصل ) ففيه لغتان مشهورتان ( أشهرهما ) وأفصحهما هدي - بإسكان الدال وتخفيف الياء - وبهذه جاء القرآن ( والثانية ) هدي - بكسر الدال وتشديد الياء - سمي هديا ; لأنه يهدى إلى الحرم ، فعلى الأولى هو فعل بمعنى مفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، وعلى الثانية فعيل بمعنى مفعول ، كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح . وأما حديث من راح في الساعة الأولى فسبق شرحه في باب الجمعة ( وقوله ) : وقال في الجديد ، أي في معظم كتبه الجديدة ، وإلا فالإملاء من الكتب الجديدة ( وأما ) الضأن والمعز والإبل والبقر فسبق بيان لغاتها في كتاب الزكاة ( قوله ) : ; لأنه فرض له بدل ، احتراز من الصلاة ومن زكاة الفطر . وذكر [ ص: 457 ] في الجديد الصنم والوثن ، فقيل هما بمعنى ، والأصح أنهما متغايران ، فعلى هذا قيل : الصنم ما كان مصورا من حجر أو نحاس أو غيرهما ، والوثن ما كان غير مصور ، وقيل : الوثن ما كان له جثة من خشب أو حجر أو جوهر أو ذهب وفضة ونحو ذلك ، سواء كان مصورا أو غير مصور ، والصنم الصورة بلا جثة ، والله أعلم .

                                      ( قوله ) رتاج الكعبة هو - بكسر الراء وتخفيف التاء المثناة فوق وبالجيم وأصله الباب ، وقد يراد به الكعبة نفسها ويقال فيه الرتج أيضا بفتح الراء والتاء والله أعلم .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) إذا نذر أن يهدي شيئا معينا من ثوب أو طعام أو دراهم أو عبيد أو دار أو شجر أو غير ذلك لزمه ما سماه ولا يجوز العدول عنه ولا إبداله ، فإن كان نذر أن يهديه إلى مكان معين واحتاج إلى مؤنة لنقله لزمه تلك المؤنة من ماله لا من المنذور ، وإن كان مما لا يمكن نقله كالدار والشجر والأرض وحجر الرحى ونحوها ، لزمه بيعه ونقل ثمنه لقوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه } قال البغوي وغيره : ويتولى الناذر البيع والنقل بنفسه ، ولا يشترط إذن الحاكم ، ولا غيره ، ويتصدق بثمنه . قال أصحابنا : وإن كان ذلك المعين بالنذر من الحيوان كالعبد والبدنة والشاة وجب حمله إلى ذلك الموضع المعين ، فإن لم يكن شرط موضعا معينا لزمه صرفه إلى مساكين الحرم ، وسواء المقيمون فيه والواردون إليه ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه حكاه الرافعي وغيره أن مساكين الحرم لا يتعينون بل يجوز صرفه في غير الحرم ، والمشهور الأول ، فإن كان المنذور بدنة أو شاة أو بقرة وجب التصدق بها بعد ذبحها ، ولا يجوز التصدق بها قبله ; لأن في ذبحها قربة .

                                      [ ص: 458 ] قال أصحابنا : ويجب الذبح في الحرم ، فإن ذبح في غيره لم يجزه ، هذا هو المذهب ، وفيه وجه آخر مشهور أنه يجوز ذبحه خارج الحرم ، بشرط أن ينقل اللحم إلى الحرم قبل أن يتغير ، وقد سبق مثل هذا الخلاف في آخر باب محظورات الإحرام ، وإن كان من غير الإبل والبقر والغنم فما يمكن نقله كالظبية والحمار والطائر والثوب ، وجب حمله إلى الحرم ، وعليه مؤنة نقله كما ذكرنا ، فإن لم يكن له مال بيع بعضه لنقل الباقي ، هكذا جزم به المصنف في التنبيه وجمهور الأصحاب قال الرافعي : وأستحسن ما حكي عن القفال أنه قال : إن قال : أهدي هذا فالمؤنة عليه ، وإن قال : جعلته هديا فالمؤنة فيه يباع بعضه ، قال : ولكن مقتضى جعله هديا أن يوصل كله إلى الحرم فيلتزم مؤنته كما لو قال : أهدي . ثم إذا بلغ الحرم فالصحيح أنه يجب صرفه إلى مساكين الحرم لكن لو نوى صرفه إلى تطييب الكعبة أو جعل الثوب سترا لها أو قربة أخرى هناك صرفه إلى ما نوى ، وفيه وجه ضعيف أنه وإن أطلق فله صرفه إلى ما نوى ، ووجه ثالث أضعف منه أن الثوب الصالح للستر يحمل عليه عند الإطلاق ، قال إمام الحرمين : قياس المذهب والذي صرح به الأئمة أن ذلك المال المعين يمتنع بيعه وتفرقة ثمنه ، بل يتصدق بعينه وينزل تعيينه منزلة تعيين الأضحية والشاة في الزكاة ، فيتصدق بالظبية والطائر وما في معناهما حيا ، ولا يذبحه إذ لا قربة في ذبحه ، فلو ذبحه فنقصت القيمة تصدق باللحم وغرم ما نقص ، هذا هو المذهب ، وحكى المتولي وجها ضعيفا أنه يذبح وطرد المتولي الخلاف فيما إذا أطلق ذكر الحيوان وقلنا : لا يشترط أن يهدي ما يجزئ في الأضحية والله أعلم .

                                      أما إذا نذر إهداء بعير معيب فهل يذبحه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم نظرا إلى جنسه ( وأصحهما ) لا ; لأنه لا يصلح للتضحية كالظبية والله أعلم .



                                      [ ص: 459 ] المسألة الثانية ) في الصفات المعتبرة في الحيوان المنذور إذا أطلق النذر ، قال أصحابنا : إذا قال : لله علي أن أهدي بعيرا أو بقرة أو شاة فهل يشترط فيه السن المجزئ في الأضحية والسلامة من العيوب ؟ فيه القولان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما ، وهما مبنيان على القاعدة السابقة أن النذر هل يحمل على أقل واجب الشرع من ذلك النوع ؟ أو أقل جائزة وما يتقرب به ؟ ( أصحهما ) على واجبه فيشترط سن الأضحية والسلامة . ولو قال : أضحي ببعير أو ببقرة ففيه مثل هذا الخلاف ، قال إمام الحرمين : وبالاتفاق لا يجزئ الفصيل ; لأنه لا يسمى بعيرا ولا العجل إذا ذكر البقرة ، ولا السخلة إذا ذكر الشاة . ولو قال : أضحي ببدنة أو أهدي بدنة جرى الخلاف ، ورأى إمام الحرمين هذه الصورة أولى باشتراط السن والسلامة ، وهو كما رأى ، وإن أهدى ولم يسم شيئا ففيه القولان ( إن نزلناه ) على ما يتقرب به من جنسه خرج عن نذره بكل ما يتصدق به ، حتى الدجاجة أو البيضة أو غيرهما من كل ما يتمول لوقوع الاسم عليه ، وعلى هذا فالصحيح من الوجهين أنه لا يجب إيصاله مكة وصرفه إلى فقرائها بل يجوز التصدق به على غيرهم ، وهذا نصه في الإملاء والقديم كما ذكره المصنف والأصحاب .

                                      ( وإن نزلناه ) على أقل واجب الشرع من جنسه ، وجب أقل ما يجزئ في الأضحية وهذا هو المنصوص في الجديد ، وهو الصحيح ، فعلى هذا يجب إيصاله مكة ; لأن محل الهدي الحرم ، وقد حملناه على مقتضى الهدي وفيه وجه ضعيف أنه لا يجب حمله إلا أن يصرح به والمذهب الأول . أما إذا قال : لله علي أن أهدي الهدي بالألف واللام ، فيجب حمله على الهدي المعهود شرعا ، وهو ما يجزئ في الأضحية ، وهذا لا خلاف فيه ; لأنه عرفه بالألف واللام ، فوجب صرفه إلى المعهود والله أعلم . .



                                      ( الثالثة ) إذا نذر ذبح حيوان ولم يتعرض لهدي ولا أضحية بأن [ ص: 460 ] قال : لله علي أن أذبح هذه البقرة ، أو أنحر هذه البدنة ، فإن قال مع ذلك : وأتصدق بلحمها أو نواه ، لزمه الذبح والتصدق ، وإن لم يقله ولا نواه فوجهان ( أحدهما ) ينعقد نذره ويلزمه الذبح والتصدق ( وأصحهما ) لا ينعقد ; لأنه لم يلتزم التصدق ، وإنما التزم الذبح وحده ، وليس فيه قربة إذا لم يكن للصدقة ، ولو نذر أن يهدي بدنة أو بقرة أو شاة إلى مكة أو أن يتقرب بسوقها ويذبحها ويفرق لحمها على فقرائها لزمه الوفاء ، ولو لم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم لزمه الذبح بها أيضا . وفي تفرقة اللحم وجهان : ( أحدهما ) لا يجب تفرقته بها إلا أن ينوي . بل له التفرقة في موضع آخر ( وأصحهما ) الوجوب . وبه قطع الأكثرون . ولو نذر الذبح في موضع آخر خارج الحرم وتفريق اللحم في الحرم على أهله - قال المتولي : الذبح خارج الحرم لا قربة فيه فيذبح حيث شاء ، ويلزمه تفرقة اللحم في الحرم ، وكأنه نذر أن يهدي إلى مكة لحما . ولو نذر أن يذبح بمكة ويفرق اللحم على فقراء بلد آخر لزمه الوفاء بما التزم ولو قال : لله علي أن أنحر أو أذبح بمكة ولم يتعرض للفظ القربة والتضحية ولا التصدق ففي انعقاد نذره وجهان ( أصحهما ) ينعقد ، وبه قطع الجمهور ، وعلى هذا في وجوب التصدق باللحم على فقرائها الوجهان السابقان .

                                      ولو نذر الذبح بأفضل بلد صح نذره ولزمه الوفاء ، وحكمه حكم من نذر الذبح بمكة ; لأنها أفضل البلاد عندنا وقد سبق إيضاح المسألة في آخر باب محظورات الإحرام ، ولو نذر الذبح أو النحر ببلدة أخرى ولم يقل مع ذلك : وأتصدق على فقرائها ولا نواه ، فوجهان مشهوران حكاهما المصنف بدليلهما وحكاهما جماعة قولين أصحهما وهو نصه في الأم لا ينعقد نذره ; لأنه لم يلتزم إلا الذبح والذبح في غير الحرم لا قربة فيه ( والثاني ) ينعقد ويلزمه الذبح وتفرقة اللحم على الفقراء ( فإن قلنا : ) ينعقد ، أو تلفظ مع ذلك بالتصدق أو نواه ، فهل يتعين التصدق باللحم ؟ أم لا يجوز نقله إلى غيرهم ؟ فيه [ ص: 461 ] طريقان ( المذهب ) أنهم يتعينون ( والثاني ) فيه وجهان مأخوذان من نقل الصدقة .

                                      ( فإن قلنا : ) لا يتعينون لم يجب الذبح بتلك البلدة بخلاف مكة فإنها محل ذبح الهدايا ( وإن قلنا ) يتعينون فوجهان ( أحدهما ) لا يجب الذبح بها ، بل لو ذبح خارجها ونقل اللحم إليها طريا جاز ، وبه قطع البغوي وجماعة ( والثاني ) يتعين إراقة الدم فيها كمكة ، وبهذا قطع العراقيون ، وحكوه عن نصه في الأم . أما إذا قال : لله علي أن أضحي ببلدة كذا وأفرق اللحم على أهلها فينعقد نذره ويغني ذكر التضحية عن ذكر التصدق ونيته ، وجعل إمام الحرمين وجوب التفرقة على أهلها ووجوب الذبح بها على الخلاف السابق ، قال : ولو اقتصر على قوله : أضحي بها فهل يتضمن ذلك تخصيص التفرقة عليهم ؟ فيه وجهان ، الصحيح الذي جرى عليه الأئمة وجوب الذبح والتفرقة بها . وفي فتاوى القفال أنه لو قال : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بعشرة دراهم على فلان فشفاه الله تعالى ، لزمه التصدق عليه ، فإن لم يقبل لم يلزمه شيء . وهل لفلان مطالبته بالتصدق بعد الشفاء ؟ قال : يحتمل أن يقال : نعم ، كما لو نذر إعتاق عبد معين إن شفي فشفي ، فإن له المطالبة بالإعتاق ، وكما لو وجبت الزكاة والمستحقون في البلد محصورون ، فإن لهم المطالبة ، والله أعلم . .



                                      ( الرابعة ) إذا قال : لله علي أن أضحي ببدنة أو أهدي بدنة ، قال إمام الحرمين : البدنة في اللغة مختصة بالواحد من الإبل ، ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة أو سبعا من الغنم ، وقال الشيخ أبو حامد وجماعة : اسم البدنة على الإبل والبقر والغنم جميعا وهذا هو الصحيح ، وقد نقله الأزهري وخلافه من أهل اللغة ، وصرحوا بأنه يطلق على الإبل والبقر [ ص: 462 ] والغنم الذكر والأنثى . ولكن اشتهر في اصطلاح الفقهاء اختصاص البدنة بالإبل . قال أصحابنا : فإذا نذر بدنة فله حالان : ( أحدهما ) أن يطلق التزام البدنة فله إخراجها من الإبل ، وهل له العدول إلى بقرة أو سبع من الغنم ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) لا ( والثاني ) نعم ( والثالث ) وهو الصحيح المنصوص أنه إن وجد الإبل لم يجز العدول وإلا جاز . وقد ذكر المصنف دليل الأوجه الثلاثة ، ويشترط في البدنة والبقرة وكل شاة أن تكون مجزئة في الأضحية .

                                      ( الحال الثاني ) أن يقيد فيقول : لله علي أن أضحي ببدنة من الإبل أو ينويها فلا يجزئه غير الإبل إذا وجدت بلا خلاف ، فإن عدمت فوجهان مشهوران ( أحدهما ) يصبر إلى أن يجدها ولا يجزئه غيرها ( والثاني ) وهو الصحيح المنصوص أن البقرة تجزئه بالقيمة . فإن كانت قيمة البقرة دون قيمة البدنة من الإبل لزمه إخراج الفاضل . هذا هو المذهب ، وفيه وجه آخر أنه لا تتعين القيمة كما في حال الإطلاق والصحيح الأول . واختلفوا في كيفية إخراج الفاضل فذكر الروياني في كتابه الكافي أنه يشتري بقرة أخرى إن أمكن وإلا فهل يشتري به شقصا أو يتصدق على المساكين بدراهم ؟ فيه وجهان . وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه يتصدق به . وقال المتولي : يشارك إنسانا في بدنة أو بقرة أو يشتري به شاة ، والله أعلم .

                                      وإذا عدل إلى الغنم في هذه الحالة اعتبرت القيمة أيضا . ثم نقل الروياني في كتابه جامع الجوامع أنه إذا لم يجد الإبل في حالة التقييد يتخير بين البقرة والسبع من الغنم ; لأن الاعتبار بالقيمة والذي ذكره ابن كج والمتولي وغيرهما أنه لا يعدل إلى الغنم مع القدرة على البقر ; لأنها أقرب . ولو وجد ثلاث شياه بقيمة البدنة فوجهان ( أصحهما ) لا تجزئه . بل عليه أن يتم السبع من ماله ( والثاني ) تجزئه لوفائهن بالقيمة . قاله أبو الحسين النسوي من أصحابنا المتقدمين في زمن ابن خيران وأبي إسحاق المروزي .



                                      [ ص: 463 ] فرع ) لو نذر شاة فجعل بدلها بدنة جاز بلا خلاف . وهل يكون جميعها فرضا ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما وسبق ذكرهما في آخر باب صفة الوضوء ، وفي صفة الصلاة وفي الزكاة وفي الحج ( أصحهما ) يقع سبعها واجبا والباقي تطوعا ( والثاني ) يقع الجميع واجبا .

                                      ( فإن قلنا ) كلها واجبة لم يجز الأكل منها إذا قلنا بالمذهب : إنه لا يجوز الأكل من الهدي والأضحية الواجبين ( وإن قلنا ) : الواجب السبع جاز الأكل من الزائد وقال الشيخ أبو حامد : يجوز أكل الزائد كله . والله أعلم . .



                                      ( فرع ) إذا نذر أن يهدي شاة بعينها لزمه ذبحها ، فإن أراد أن يذبح عنها بدنة لم يجزئه ; لأن الشاة تعينت فلا يجوز غيرها كما لو نذر إعتاق عبد معين والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الشافعي في الأم : لو قال : إذا أهدى هذه الشاة نذرا لزمه أن يهديها إلا أن تكون نيته أني سأحدث نذرا أو سأهديها فلا يلزمه . قال : فلو نذر أن يهدي هديا ونوى بهيمة أو جديا أو رضيعا أجزأه . هكذا نص عليه . قال أصحابنا : والقولان السابقان فيما إذا أطلق نذر الهدي ولم ينو شيئا قال الشافعي ولو نذر أن يهدي شاة لا تجزئ في الأضحية أجزأته . قال : ولو أهدى كاملة كان أفضل . والله أعلم .

                                      ( فرع ) يجزئ الذكر والأنثى والخصي والفحل في جميع ذلك سواء كان الواجب من الإبل أو البقر أو الغنم بلا خلاف لوقوع الاسم عليه .



                                      ( الخامسة ) إذا نذر الإهداء لرتاج الكعبة لزم صرفه في كسوتها . وإن قصد صرفه في طيبها أو غير ذلك مما يصح نذره صرف إليه . وإن نذر الإهداء إلى بلد آخر - فإن صرح بصرفه في عمارة مسجد ذلك البلد [ ص: 464 ] أو نواه أو صرح بصرفه في قرية أخرى مثلها أو نواه - صرفه في ذلك ، وإن أطلق فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) يصرفه فيما شاء من وجوه القربات في ذلك البلد ( وأصحهما ) يتعين صرفه إلى مساكين ذلك البلد المقيمين فيه والواردين ، وهما مبنيان على الوجهين السابقين أن النذر المطلق هل يحمل على المعهود أم على ما يقع عليه الاسم ؟ ( إن قلنا ) بالأصح وهو الحمل على المعهود تعين للمساكين وإلا فلا ، والله تعالى أعلم . .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : تطييب الكعبة وسترها من القربات ، سواء سترها بالحرير وغيره ، ولو نذر سترها أو تطييبها صح نذره بلا خلاف . أما إذا نذر هديا لرتاج الكعبة وطيبها فقال الشيخ إبراهيم المروروذي وغيره : ينقله ويسلمه إلى القيم ليصرفه في الجهة المذكورة إلا أن يكون قد نوى ، أو نص في نذره أن يتولى ذلك بنفسه فيلزمه . أما إذا نذر تطييب مسجد المدينة أو الأقصى أو غيرهما ففي انعقاد نذره تردد لإمام الحرمين ، ومال الإمام إلى تخصيص الانعقاد بالمسجد الحرام ، والمختار الصحة في كل مسجد ; لأن تطييبها سنة مقصودة ، فلزمت بالنذر كسائر الطاعات .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن من نذر هديا مطلقا لزمه في أصح القولين ما يجزئه في الأضحية ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وقال داود : ما يقع عليه اسم هدي ، وهو قولنا الآخر ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية