الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثاني : استفتاح السور بحروف التهجي

نحو : ( الم ) ، ( المص ) ، ( المر ) ، ( كهيعص ) ، ( طه ) ( طس ) ، ( طسم ) ، ( حم ) ، ( حم عسق ) ، ( ق ) ، ( ن ) ، وذلك في تسع وعشرين سورة .

قال الزمخشري : وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها السور وجدتها نصف أسامي حروف المعجم ، أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والخاء ، والقاف ، والنون . في تسع وعشرين سورة ، عدد حروف المعجم ، ثم تجدها مشتملة على أصناف أجناس الحروف المهموسة والمجهورة ، والشديدة والرخوة ، والمطبقة والمنفتحة ، والمستعلية والمنخفضة ، وحروف القلقلة . ثم إذا استقريت الكلام تجد هذه الحروف هي أكثر دورا مما بقي ، ودليله : أن الألف واللام لما كانت أكثر تداورا جاءت في معظم هذه الفواتح ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته . انتهى .

قيل : وبقي عليه من الأصناف : الشديدة والمنفتحة ، وقد ذكر تعالى نصفها ، أما حروف الصفير فهي ثلاثة ، ليس لها نصف ، فجاء منها : السين والصاد ، ولم يبق إلا الزاي ، وكذلك الحروف اللينة ثلاثة ; ذكر منها اثنين : الألف والياء ، أما المكرر وهو الراء ، [ ص: 256 ] والهاوي وهو الألف ، والمنحرف وهو اللام ، فذكرها ولم يأت خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديدة والرخوة ; فإنه ذكر فيه أكثر من النصف ، وهذا التداخل موجود في كل قسم قبله ، ولولاه لما انقسمت هذه الأقسام كلها ، ووهم الزمخشري في عدة حروف القلقلة ; إنما ذكر نصفها ، فإنها خمسة ، ذكر منها حرفان : القاف والطاء .

وقال القاضي أبو بكر : إنما جاءت على نصف حروف المعجم ; كأنه قيل : من زعم أن القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي ، ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن . وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق .

واعلم أن الأسماء المتهجاة في أول السور ثمانية وسبعون حرفا ; فالكاف والنون كل واحد في مكان واحد ، والعين والياء والهاء والقاف كل واحد في مكانين ، والصاد في ثلاثة ، والطاء في أربعة ، والسين في خمسة ، والراء في ستة ، والحاء في سبعة ، والألف واللام في ثلاثة عشر ، والميم في سبعة عشر ، وقد جمع بعضهم ذلك في بيتين ، وهما :


كن واحد عيهق اثنان ثلاثة ضا د الطاء أربعة والسين خمس علا     والراء ست وسبع الحاء آل ودج
وميمها سبع عشر تم واكتملا



وهي في القرآن في تسعة وعشرين سورة ، وجملتها من غير تكرار أربعة عشر حرفا ، يجمعها قولك : " نص حكيم قاطع له سر " ، وجمعها السهيلي في قوله : " ألم يسطع نور حق كره " .

وهذا الضابط في لفظه ثقل ، وهو غير عذب في السمع ، ولا في اللفظ ، ولو قال : " لم يكرها نص حق سطع " لكان أعذب .

ومنهم من ضبط بقوله : " طرق سمعك النصيحة " ، و " صن سرا يقطعك حمله " ، و " على صراط حق يمسكه " ، وقيل : " من حرص على بطه كاسر " ، وقيل : سر حصين قطع كلامه .

[ ص: 257 ] ثم بنيتها ثلاثة حروف موحدة : " ص " ، " ق " ، " ن " ، وعشرة مثنى : " طه " ، " طس " ، " يس " ، " حم " ، واثنا عشر مثلثة الحروف : " الم " ، " الر " ، " طسم " ، واثنان حروفها أربعة : " المص " ، " المر " ، واثنان حروفها خمسة " كهيعص " ، " حم عسق " .

وأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر منها ما هو ثلاثة أحرف ، وما هو أربعة أحرف سورتان ، وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان .

وأما ما بدئ بحرف واحد فاختلفوا فيه : فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا ، وإنما جعله اسما لشيء خاص ، ومنهم من جعله حرفا ، وقال : أراد أن يتحقق الحروف مفردها ومنظومها .

فأما ما ابتدى بثلاثة أحرف ففيه سر ; وذلك أن الألف إذا بدئ بها أولا كانت همزة ، وهي أول المخارج من أقصى الصدر ، واللام من وسط مخارج الحروف ، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان ، والميم آخر الحروف ، ومخرجها من الفم ، وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف ، أعني الحلق واللسان والشفتين ، وترتبت في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية .

فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة ، التي يتفرع منها ستة عشر مخرجا ; ليصير منها تسعة وعشرون حرفا ، عليها مدار كلام الخلق أجمعين ، مع تضمنها سرا عجيبا ، وهو أن الألف للبداية ، واللام للتوسط ، والميم للنهاية ، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما .

وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسطه ، مشتملة على خلق العالم وغايته ، وعلى التوسط بين البداية من الشرائع والأوامر ، فتأمل ذلك في " البقرة " و " آل عمران " و " تنزيل السجدة " وسورة " الروم " .

وأيضا فلأن الألف واللام كثرت في الفواتح دون غيرها من الحروف ; لكثرتها في الكلام .

وأيضا من أسرار علم الحروف : أن الهمزة من الرئة ، فهي أعمق الحروف ، واللام مخرجها من طرف اللسان ، ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم ، فصوتها يملأ ما وراءها من هواء الفم ، والميم مطبقة ; لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقتا ، ويرمز بهن إلى باقي الحروف ; [ ص: 258 ] كما رمز صلى الله عليه وسلم بقوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إلى الإتيان بالشهادتين وغيرهما مما هو من لوازمهما .

وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن ; فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها ، وهي : الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والإصمات . والسين مهموس رخو مستفل صفير منفتح ، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها ، كالسين والهاء ، فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف .

وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة : كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف ; فمن ذلك : ( ق والقرآن المجيد ) ( ق : 1 ) ، فإن السورة مبنية على الكلمات القافية : من ذكر القرآن ، ومن ذكر الخلق ، وتكرار القول ومراجعته مرارا ، والقرب من ابن آدم ، وتلقي الملكين ، وقول العتيد ، وذكر الرقيب ، وذكر السابق ، والقرين ، والإلقاء في جهنم ، والتقدم بالوعد ، وذكر المتقين ، وذكر القلب والقرن ، والتنقيب في البلاد ، وذكر القتل مرتين ، وتشقق الأرض ، وإلقاء الرواسي فيها ، وبسوق النخل والرزق ، وذكر القوم ، وخوف الوعيد ، وغير ذلك .

وسر آخر : وهو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف ; من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح .

[ ص: 259 ] وإذا أردت زيادة إيضاح ، فتأمل ما اشتملت عليه سورة " ص " من الخصومات المتعددة ; فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) ( ص : 5 ) ، إلى آخر كلامهم ، ثم اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار ، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم ، وهو الدرجات والكفارات ، ثم تخاصم إبليس ، واعتراضه على ربه ، وأمره بالسجود ، ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه ، وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم .

وكذلك سورة : ( ن والقلم ) ; فإن فواصلها كلها على هذا الوزن ، مع ما تضمنت من الألفاظ النونية .

وتأمل سورة " الأعراف " ، زاد فيها " ص " ; لأجل قوله : ( فلا يكن في صدرك حرج ) ( الآية : 2 ) ، وشرح فيها قصص آدم فمن بعده من " الأنبياء " ; ولهذا قال بعضهم : معنى المص : ( ألم نشرح لك صدرك ) ( الشرح : 1 ) ، وقيل : معناه المصور ، وقيل : أشار بالميم لمحمد ، وبالصاد للصديق ، وفيه إشارة لمصاحبة الصاد الميم ، وأنها تابعة لها ، كمصاحبة الصديق لمحمد ، ومتابعته له .

وجعل السهيلي هذا من أسرار الفواتح ، وزاد في " الرعد " " راء " ; لأجل قوله : ( الله الذي رفع السماوات ) ( الآية : 2 ) ، ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما .

واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن ; كقوله : ( الم ذلك الكتاب ) ( البقرة : 1 و 2 ) ، وقد جاء بخلاف ذلك في " العنكبوت " و " الروم " ، فيسأل عن حكمة ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية