الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين

هذه المقالة قالها الملأ لتباعهم؛ وسائر الناس الذين يقلدونهم.

و"الرجفة": الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.

[ ص: 617 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت بالرجفة؛ وفرقة بالظلة؛ ويحتمل أن الظلة والرجفة كانتا في حين واحد؛ وروي أن الله - تبارك وتعالى - بعث شعيبا - عليه السلام - إلى أهل مدين؛ وإلى أصحاب الأيكة؛ وقيل: هما طائفتان؛ وقيل: واحدة؛ وكانوا - مع كفرهم - يبخسون الكيل والوزن؛ فدعاهم فكذبوه؛ فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة؛ فلما عتوا؛ وطالت بهم المدة فتح الله تعالى عليهم بابا من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه؛ فلم ينفعهم ظل ولا ماء؛ ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها؛ فتنادوا: عليكم الظلة؛ فلما اجتمعوا تحت الظلة؛ وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم.

قال الطبري : فبلغني أن رجلا من أهل مدين؛ يقال له عمرو بن جلهاء؛ قال لما رآها:


يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا ... عنكم سميرا وعمران بن شداد

    إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت
... تدعو بصوت على صمانة الوادي

    وإنكم إن تروا فيها ضحاة غد
... إلا الرقيم يمشي بين أنجاد



وسمير؛ وعمران: كاهناهم؛ والرقيم: كلبهم؛ وروي أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - كان إذا ذكر شعيبا قال: "ذلك خطيب الأنبياء"؛ لقوله لقومه: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: يريد: لحسن مراجعته؛ وجميل تلطفه.

وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال: أبو جاد؛ وهوز؛ وحطي؛ [ ص: 618 ] وكلمن؛ وسعفص؛ وقرشت: أسماء ملوك مدين؛ وكان الملك يوم الظلة "كلمن"؛ فقالت أخته ترثيه:


كلمن قد هد ركني ...     هلكه وسط المحلة


سيد القوم أتاه الـ...     ـحتف نار وسط ظلة


جعلت نارا عليهم ...     دارهم كالمضمحلة



قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه حكاية مظنون بها؛ والله تعالى أعلم؛ وقد تقدم معنى "جاثمين".

وقوله تعالى كأن لم يغنوا فيها ؛ لفظ فيه الإخبار عن قوة هلاكهم؛ ونزول النقمة بهم؛ والتنبيه على العبرة بهم؛ ونحو هذا قول الشاعر:


كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ...      ...................



و"يغنوا"؛ معناه: يقيموا؛ ويسكنوا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: و"غنيت في المكان"؛ إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم؛ وعيش رخي؛ هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة؛ فمن ذلك قول الشاعر:


وقد نغنى بها ونرى عصورا ...     بها يقتدننا الخرد الخذالا



[ ص: 619 ] ومنه قول الآخر:


ولقد يغنى بها جيرانك الـ ...     ممسكو منك بعهد ووصال



أنشده الطبري ؛ ومنه قول الآخر:


ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ...      ...................



ومنه قول مهلهل :


غنيت دارنا تهامة في الدهـ ...     ـر وفيها بنو معد حلولا



ويشبه أن تكون اللفظة من "الاستغناء"؛ وأما قوله تعالى كأن لم تغن بالأمس ؛ ففيه هذا المعنى؛ لأن المراد: "كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة"؛ ولا توجد - فيما علمت - إلا مقترنة بهذا المعنى؛ وأما قول الشاعر:


غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ...     وكلا سقاناه بكأسهما الدهر



[ ص: 620 ] فمعناه: استغنينا بذلك؛ ورضيناه؛ مع أن هذه اللفظة ليست مقترنة بمكان.

وقوله تعالى يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ؛ إلى آخر الآية كلام يقتضي أن شعيبا - عليه السلام - وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه؛ حزنا؛ وإشفاقا؛ إذ كان أمله فيهم غير ذلك؛ فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم؛ والقسوة عليهم؛ فجعل يعدد معاصيهم؛ وإعراضهم الذي استوجبوا به ألا يتأسف عليهم؛ فذكر أنه بلغ الرسالة؛ ونصح؛ والمعنى: "فأعرضوا؛ وكذبوا؛ ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا؛ وفكرت فيه: فكيف آسى على هؤلاء الكفرة؟"؛ ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم - لأهل قليب بدر؛ وقال مكي : وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة؛ إلى أن ماتوا بها.

و"آسى": أحزن.

وقرأ ابن وثاب ؛ وطلحة بن مصرف ؛ والأعمش : "إيسى"؛ بكسر الهمزة؛ وهي لغة؛ كما يقال: "إخال"؛ و"إيمن"؛ قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "لا أخاله"؛ وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر ؛ في كتاب "الحج": "لا إيمن"؛ وجميع ذلك في البخاري ؛ وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث؛ همزة التكلم؛ ونون الجماعة؛ وتاء المخاطبة؛ ولا يجوز ذلك في ياء الغائب؛ كذا قال سيبويه ؛ وأما قولهم من "وجل": "ييجل"؛ فلعله من غير هذا الباب.

التالي السابق


الخدمات العلمية