الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وهذا الذي ذكرناه فيما كان من الحيوان مقدورا على ذبحه ، فيعتبر في ذكاته ما وصفنا من موضع الذكاة ومن الآلة على النحو الذي بينا . وأما الذي لا نقدر منه على ذبحه ، فإن ذكاته إنما تكون بإصابته بما يجرح ويسيل الدم أو بإرسال كلب أو طير فيجرحه دون ما يصدم أو يهشم مما لا حد له يجرحه ؛ ولا يختلف في ذلك عندنا حكم ما يكون أصله ممتنعا مثل الصيد وما ليس بممتنع في الأصل من الأنعام ثم يتوحش ويمتنع أو يتردى في موضع لا نقدر فيه على ذكاته .

وقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين ، أحدهما : في الصيد إذا أصيب بما لا يجرحه من الآلة ، فقال أصحابنا ومالك والثوري : " إذا أصابه بعرض المعراض لم يؤكل إلا أن يدرك ذكاته " . وقال الثوري : " وإن رميته بحجر أو بندقة كرهته إلا أن تذكيه ، ولا فرق عند أصحابنا بين المعراض والحجر والبندقة " .

وقال الأوزاعي في صيد المعراض : " يؤكل خزق أو لم يخزق " قال : " وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا " .

وقال الحسن بن صالح : " إذا خزق الحجر فكل والبندقة لا تخزق " . وقال الشافعي : " إن خزق المرمي برميه أو قطع بحده أكل ، وما جرح بثقله فهو وقيذ ؛ وفيما نالته الجوارح فقتلته فيه قولان :

أحدهما : أنه لا يؤكل حتى يجرح لقوله تعالى : من الجوارح مكلبين والآخر أنه حل " . قال أبو بكر : ولم يختلف أصحابنا ومالك والشافعي في الكلب إذا قتل الصيد بصدمته لم يؤكل .

وأما الموضع الآخر : فما ليس بممتنع في الأصل ، مثل البعير والبقر إذا توحش أو تردى في بئر ، فقال أصحابنا : " إذا لم يقدر على ذبحه فإنه يقتل كالصيد ويكون مذكى " وهو قول الثوري والشافعي . وقال مالك والليث : " لا يؤكل إلا أن يذبح على شرائط الذكاة " . وروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والأسود ومسروق مثل قول أصحابنا ، وقد تقدم ذكر الآثار المؤيدة لقول أصحابنا في الصيد أن شرط ذكاته أن يجرحه بما له حد ، ومنه ما ذكر في المعراض أنه إن أصاب بحده أكل وإن أصاب بعرضه لم يؤكل فإنه وقيذ ، لقوله تعالى : والموقوذة فكل [ ص: 304 ] ما لا يجرح من ذلك فهو وقيذ محرم بظاهر الكتاب والسنة .

وفي حديث قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن الخذف وقال : إنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين فدل ذلك على أن الجراحة في مثله لا تذكى ؛ إذ ليس له حد ، وإنما الجراحة التي لها حكم في الذكاة هي ما يقع بما له حد ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المعراض : إن أصابه بحده فخزق فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ولم يفرق بين ما يجرح ولا يجرح ؟ فدل ذلك على اعتبار الآلة ، وأن سبيلها أن يكون لها حد في صحة الذكاة بها . وكذلك قوله في الخذف : إنها لا تصيد الصيد يدل على سقوط اعتبار جراحته في صحة الذكاة إذا لم يكن له حد .

وأما البعير ونحوه إذا توحش أو تردى في بئر ، فإن الذي يدل على أنه بمنزلة الصيد في ذكاته ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال : ند علينا بعير فرميناه بالنبل ، ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا ند منها شيء فاصنعوا به ذلك وكلوه ؛ وقال سفيان : وزاد إسماعيل بن مسلم : فرميناه بالنبل حتى رهصناه .

فهذا يدل على إباحة أكله إذا قتله النبل لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط ذكاة غيره . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللبة والنحر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك وهذا على الحال التي لا يقدر فيها على ذبحها ؛ إذ لا خلاف أن المقدور على ذبحه لا يكون ذلك ذكاته .

ويدل على صحة قولنا من طريق النظر اتفاق الجميع على أن رمي الصيد يكون ذكاة له إذا قتله ، ثم لا يخلو المعنى الموجب لكون ذلك ذكاة من أحد وجهين : إما أن يكون ذلك الجنس الصيد ؛ أو لأنه غير مقدور على ذبحه ، فلما اتفقوا على أن الصيد إذا صار في يده حيا لم تكن ذكاته إلا بالذبح كذكاة ما ليس من جنس الصيد ، دل ذلك على أن هذا الحكم لم يتعلق بجنسه وإنما تعلق بأنه غير مقدور على ذبحه في حال امتناعه ، فوجب مثله في غيره إذا صار بهذه الحال لوجود العلة التي من أجلها كان ذلك ذكاة للصيد .

واختلف الفقهاء في الصيد يقطع بعضه ، فقال أصحابنا والثوري [ ص: 305 ] وهو قول إبراهيم ومجاهد : " إذا قطعه بنصفين أكلا جميعا ، وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكل ، فإن قطع الثلث الذي يلحق العجز أكل الثلثان الذي يلي الرأس ولا يؤكل الثلث الذي يلي العجز " . وقال ابن أبي ليلى والليث : " إذا قطع منه قطعة فمات الصيد مع الضربة أكلهما جميعا " . وقال مالك : " إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل ، وإن قطع فخذه لم يأكل الفخذ وأكل الباقي " .

وقال الأوزاعي : " إذا أبان عجزه لم يأكل ما انقطع منه ويأكل سائره ، وإن قطعه بنصفين أكله كله " . وقال الشافعي : " إن قطعه قطعتين أكله وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى ، وإن قطع يدا أو رجلا أو شيئا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل ما لم يبن منه ولم يؤكل ما بان وفيه الحياة ، ولو مات من القطع الأول أكلهما جميعا " .

قال أبو بكر : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا عبد الرحمن بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة ، وهذا إنما يتناول قطع القليل منه من غير موضع الذكاة وذلك ؛ لأنه لا خلاف أنه لو ضرب عنق الصيد فأبان رأسه كان الجميع مذكى ، فثبت بذلك أن المراد ما بان منها من غير موضع الذكاة ، وذلك إنما يتناول الأقل منه ؛ لأنه إذا قطع النصف أو الثلث الذي يلي الرأس فإنه يقطع العروق التي يحتاج إلى قطعها للذكاة ، وهي الأوداج والحلقوم والمريء فيكون الجميع مذكى ، وإذا قطع الثلث مما يلي الذنب فإنه لا يصادف قطع العروق التي يحتاج إليها في شرط الذكاة فيكون ما بان منه ميتة لقوله صلى الله عليه وسلم : ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميتة وذلك لأنه لا محالة إنما يحدث الموت بعد القطع فقد بان ذلك العضو منها وهي حية فهو ميتة ، وما يلي الرأس كله مذكى كما لو قطع رجلها أو جرحها في غير موضع الذكاة ولم يبن منها شيئا ، فيكون ذلك ذكاة لها لتعذر قطع موضع الذكاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية