الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ حيلة لتجويز وقف الإنسان على نفسه ]

المثال السابع والأربعون : إذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو قول أبي يوسف ، وعليه عمل الحنفية ، وقول بعض الشافعية ، وممن اختاره أبو عبد الله الزبيري ، وعند الفقهاء الثلاثة لا يصح .

والمانعون من صحته قالوا : يمتنع كون الإنسان معطيا من نفسه لنفسه ; ولهذا لا يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه ، فكذا لا يصح وقفه على نفسه .

قال المجوزون : الوقف شبيه العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته ، ولهذا لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معين اتفاقا ، ولا إذا كان على معين على أحد القولين ، وأشبه شيء به أم الولد .

وإذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملكا لنفسه ، بل يكون مخرجا للملك عن نفسه ومانعا لها من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كأم الولد . وهذا إذا قلنا بانتقال رقبة الوقف إلى الله تعالى ظاهر ; فإن الواقف أخرج رقبة الوقف لله وجعل نفسه أحد المستحقين للمنفعة مدة حياته فإن لم يكن أولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم ، فهذا محض القياس .

وإن قلنا : الوقف ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف فالطبقة الأولى أحد الموقوف عليهم ، ومعلوم أن أحد الشريكين إذا اشترى لنفسه أو باع من مال الشركة جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين ، فلأن يجوز أن ينقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها هو أحدها أولى ; لأنه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك له فيه نصيب ، بل في الشركة الملك الثاني من جنس الأول يملك به التصرف في الرقبة ، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون أولى بالجواز .

يؤيده أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد من تلك الجهة ، كما وقف عثمان بئر رومة وجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين ، وكما يصلي المرء في المسجد الذي وقفه ، ويشرب [ ص: 290 ] من السقاية التي وقفها ، ويدفن في المقبرة التي سبلها ، أو يمر في الطريق التي فتحها ، وينتفع بالكتاب الذي وقفه ، ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما ، وأمثال ذلك ، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة ، لاتفاقهما في المعنى ، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين ، وهناك دخل في الوقف بشمول الاسم له .

وتقليد هذا القول خير من الحيلة الباردة التي يملك الرجل فيها ماله لمن لا تطيب له نفسه أن يعطيه درهما ثم يقفه ذلك المملك على المملك ; فإن هذه الحيلة تضمنت أمرين ، أحدهما : لا حقيقة له ، وهو انتقال الملك إلى المملك . والثاني : اشتراطه عليه أن يقف على هذا الوجه ، أو إذنه له فيه ، وهذا في المعنى توكيل [ له ] في الوقف ، كما أن اشتراطه حجر عليه في التصرف بغير الوقف ; فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواء لم يملكه المملك ولا يمكنه وجود التصرف فيه ، ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته أخذه ، ولو أنه أخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده إليه عد ظالما غاصبا ، ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذا كنفوذه قبله ، هذا فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك في الحكم إن قامت بينة بأنهما تواطآ على ذلك وأنه إنما وهبه إياه بشرط أن يقفه عليه أو أقر له بذلك .

فإن قيل : فهل عندكم أحسن من هذه الحيلة ؟

قيل : نعم ، أن يقفه على الجهات التي يريد ; ويستثني غلته ومنفعته لنفسه مدة حياته أو مدة معلومة ، وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح ، وهو مذهب فقهاء أهل الحديث ; فإنهم يجوزون أن يبيع الرجل الشيء أو يهبه أو يعتق العبد ويستثني بعض منفعة ذلك مدة . ويجوزون أن يقف الشيء على غيره ويستثني بعض منفعته مدة معلومة أو إلى حين موته . ويستدلون بحديث جابر ، وبحديث عتق أم سلمة سفينة ، وبحديث عتق صفية ، وبآثار صحاح كثيرة عن الصحابة لم يعلم فيهم من خالفها ، ولهذا القول قوة في القياس .

فإن قيل : فلو عدل إلى الحيلة الأولى فما حكمها في نفس الأمر ؟ وما حكم الموقوف عليه إذا علم بالحال ، هل يطيب له تناول الوقف أم لا ؟

قيل : لا يمنع ذلك صحة الوقف ونفوذه ، ويطيب للموقوف عليه تناول الوقف ; فإن المقصود مقصود صحيح شرعي وإن كانت الطريق إليه غير مشروعة وهذا كما إذا أعتق العبد أو طلق المرأة وجحد ذلك فأقام العبد أو المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدا به وسع العبد أن يتصرف لنفسه والمرأة أن تتزوج ، وفقه المسألة أن هذا الإذن والتوكيل في الوقف وإن [ ص: 291 ] حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد ، كما لو فسدت الشركة أو المضاربة لم يفسد تصرف الشريك والعامل لما تضمنه العقد الفاسد من الإذن ، بل هذا أولى من وجهين ; أحدهما : أن الاتفاق يلزمه قبل التمليك إذن صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما ينافيها ، وأيضا فإنما بطل عقد الهبة لكونه شرط على الموهوب له أن لا يتصرف فيه إلا بالوقف على الواهب ، ومعلوم أن التصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بالوكالة وبطريق الولاية ; فلا يلزم من إبطال الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط ; لأن الإذن مستند غير الملك .

فإن قيل : فإذا بطل الملك ينبغي أن يبطل التصرف الذي هو من توابعه .

قيل : لا يلزم ذلك ; لأن التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي ، وإنما هو من توابع الإذن والتوكيل .

يوضحه أن هذه الحيل التي لا حقيقة لها يجب أن تسلب الأسماء التي أعيرتها وتعطى الأسماء الحقيقية ، كما سلب منها ما يسمى بيعا ونكاحا وهدية هذه الأسماء وأعطي اسم الربا والسفاح والرشوة ; فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى إذنا وتوكيلا ، ولا سيما فإن صحة الوكالة لا يتوقف على لفظ مخصوص ، بل تصح بكل لفظ يدل على الوكالة ; فهذه الحيلة في الحقيقة توكيل للغير في أن يقف على الموكل ; فمن اعتقد صحة وقف الإنسان على نفسه اعتقد جواز هذا الوقف ، ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المفضية إلى الباطل فإنه عنده يكون منقطع الابتداء ، وفيه من الخلاف ما هو مشهور ، فمن أبطله رأى أن الطبقة الثانية ومن بعدها تبع للأولى ، فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع أولى أن لا يصح ، ولأن الواقف لم يرض أن تصير الثانية إلا بعد الأولى ، فلا يجوز أن يلزم بما لم يرض به ; إذ لا بد في صحة التصرف من رضا المتصرف وموافقة الشرع ; فعلى هذا هو باق على ملك الواقف .

فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذ ؟ يحتمل وجهين . ويكون مأخذهما ذلك ، كما لو قال : " هو وقف بعد موتي " فيصح ، أو أنه وقف معلق على شرط ، وفيه وجهان : فإن قيل بصحته كان من الثلث وفي الزائد يقف على إجازة الورثة ، وإن قيل ببطلانه كان ميراثا ، ومن رأى صحته قال : قد أمكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحح الوقف ويصرفه في الحال إلى جهته التي يصح الوقف عليها ، وتلغى الجهة التي لا تصح فتجعل كالمعدومة . وقيل على هذا القول : بل تصرف مصرف الوقف المنقطع ، فإذا مات الواقف صرف مصرف الجهة الصحيحة . [ ص: 292 ] فإن قيل : فما تقولون لو سلك حيلة غير هذا كله ، وأسهل منه وأقرب ؟ وهي أن يقر أن ما في يده من العقار وقف عليه انتقل إليه من جائز الملك جائز الوقف ، ثم بعده على كذا وكذا ، فما حكم هذه الحيلة في الباطن ، وحكم من علم بها من الموقوف عليهم ؟ .

قيل : هذه الحيلة إنما قصد المتكلم بها إنشاء الوقف ، وإن أظهر أنه قصد بها الإخبار ; فهي إنشاء في الباطن إخبار في الظاهر ، فهي كمن أقر ببطلان أو عتاق ينوي به الإنشاء ، والوقف ينعقد بالصريح وبالكناية مع النية وبالفعل مع النية عند الأكثرين ، وإذا كان مقصوده الوقف على نفسه وتكلم بقوله : " هذا وقف علي " وميزه بفعله عن ملكه صار وقفا ; فإن الإقرار يصح أن يكون كناية عن الإنشاء مع النية ، فإذا قصده به صح كما أن لفظ الإنشاء يجوز أن يقصد به الإخبار ، وإذا أراد به الإخبار دين ، فكل من الأمرين صالح لاستعماله في الآخر ، فقد يقصد بالإقرار الإخبار عما مضى ، وقد يقصد به الإنشاء ، وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرض من الأغراض .

يوضح ذلك أن صيغ العقود قد قيل : هي إنشاءات ، وقيل : إخبارات ; والتحقيق أنها متضمنة للأمرين ; فهي إخبار عن المعاني التي في القلب ، وقصد تلك المعاني إنشاء ; فاللفظ خبر والمعنى إنشاء ، فإذا أخبر أن هذا وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه عليه وإنما مقصوده أن يصير وقفا بهذا الإخبار فقد اجتمع لفظ الإخبار وإرادة الإنشاء ، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن هناك ريب أنه أنشأ الوقف ، لكن لما كان لفظه إخبارا عن غير ما عناه ، والذي عناه لم ينشئ له لفظا صارت المسألة محتملة ، ونشأت الشبهة ; ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح للكناية مع الفعل الدال على الوقف يقوم مقام التكلم باللفظ الذي ينشأ به الوقف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية