الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النجاة في اتباع طريقة المحدثين

انظر في مؤلفات المحدثين القدماء والمتأخرين منهم الذين هم على منهاج الصدر الأول في الزمان الآخر؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية الإمام وتلاميذه، والسيد محمد بن الوزير، والسيد محمد بن إسماعيل الأمير، والقاضي محمد الشوكاني وتلاميذه، وأهل اليمن، وجماعة ذكرها صاحب كتاب «التاج المكلل» وهم عصابة عظيمة من الأمة المحمدية، على صاحبها الصلاة والتحية.

[ ص: 209 ] وهؤلاء اقتصروا في الديانة على الكتاب والسنة، ولم يؤثر عنهم الأخذ بالرأي، فإنه في الشريعة تحريف، وقد نفى من الدين انتحال المبطلين وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وكلهم عدول، عدلهم سيد المرسلين.

بخلاف غيرهم، فإن بعضهم عدل بعضا، وجرح بعضا، وهم سواسية في الحكم والفعل والتعبد بما جاء به الكتاب والسنة، لا ترجيح لأحد على أحد إلا في زعم المعتقدين فيهم، المريدين لهم، والمقلدين إياهم.

«وما كان سوى ذلك» من مواد العلوم؛ عقلية كانت أو نقلية، جاءت من عند غير الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- «فهو فضل» أي: زيادة غير محتاج إليها.

قال في الترجمة: غلب هذا اللفظ في ما لا يعني وما لا خير فيه، والفضولي: من اشتغل بما لا يعنيه. انتهى.

قلت: وقد ذكر صاحب «أبجد العلوم» في الكتاب المذكور علوما جمة، وذكر أسماءها، ومبادئها، وغاياتها، وأغراضها، وما ألف فيها من الكتب؛ ومن ألفه. وهي تزيد على أربع مئة علم، منها ما هو من وسائل علم الدين، ومنها ما هو داخل في الفضل، وقد جمعها لكشف هذا المعنى. رواه أبو داود، وابن ماجه.

والحديث دليل على أن ما سوى الكتاب والسنة من العلوم فضلة زائدة.

ومن محاسن الاتفاق أن من يشتغل بهذه الفضول يقال له: الفاضل، وجمعه فضلاء.

وغالب فضلاء الزمان المدعين لفضلهم في العلم كذلك؛ لاشتغالهم في علوم الفلسفة والأوائل، وتقديمهم لها على الاشتغال بعلم الدين.

حتى إن سفهاء الأحلام منهم صرحوا بأن الذي يعلم القرآن والحديث فقط، ولا يدري علومنا هذه: الحكمة، والمنطق، وما يليهما، فإنه ليس في عداد أهل الفضل.

[ ص: 210 ] وإنما الفاضل من يحسن دراسة العلوم العقلية المأثورة عن حكماء اليونان وكفارهم المنكرين للرسالة.

ولا ريب أن هذه كلمة حق أريد بها الباطل؛ لأن العارف بالكتاب والسنة يقال له: القارئ، والعالم.

والعامل بهما يقال له: المتبع والسني.

والداري بعلوم الأوائل يقال له: الفاضل؛ من الفضل المذكور في حديث الباب.

والعامل بها يقال له: الفيلسوف، والمنطقي، ونحوهما.

وبهذا تقرر أن من اشتغل بما سوى علم الآية المحكمة، والسنة القائمة، والفريضة العادلة، فهو فاضل.

ومن اشتغل بعلوم القرآن والحديث، فهو عالم، ولا يصح إطلاق العلم والعالم على غير ما ذكر.

ولهذا أنكر جماعة من العلماء إطلاق العالم على المقلد لأحد في دينه، ونصوا على أن المقلدين جهلة لا علماء، وإن بلغوا في زعمهم أو زعم أهل محلتهم ونحلتهم من الفضل ونهايته، فإن الزيادة في هذا الفضل زيادة في الجهل، وبعد عن منازل العلم.

فإن ثبت أن بعضهم أطلق لفظ العلم على مثل هذا الفضل، فذلك من باب المجاز، دون الحقيقة، ومن وادي الخيال دون اليقين.

وفي مثل هذا الموضع قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من العلم جهلا» فالذي زعموه أنه علم، هو جهل بتنصيص الشارع عليه السلام.

فتأمل أيها السني في هذا الكلام. ونسأل الله تعالى لنا ولك الوصول إلى العلم الحقيقي الموصل إلى دار السلام.

[ ص: 211 ] ومن ثم ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر العلم، قيده بالعلم النافع كما في الأدعية المأثورة. وهذا أفاد أن من العلم ما هو غير نافع، وهو الفضل المذكور في حديث الباب، وإطلاق العلم في بعض المواضع، وعدم تقييده بالنافع؛ للعلم به، والمطلق يحمل على المقيد.

والكلام على هذه المسألة يطول جدا، وفيما أشرنا إليه كفاية لمن هداه الله. اللهم ارزقنا علما نافعا، وعملا صالحا، وتوبة خالصة عن النكس والعود إلى الذنوب.

التالي السابق


الخدمات العلمية