الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ القول في التزويج على منافع العبد والحر ]

                                                                                                                                            قال الماوردي : يجوز أن تكون منافع العبد والحر صداقا لزوجته ، مثل أن يتزوجها على أن يخدمها شهرا ، أو يبني لها دارا ، أو يخيط لها ثوبا ، أو يرعى لها غنما .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا يجوز أن تكون منافع الحر والعبد صداقا .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون منافع العبد صداقا ، ولا يجوز أن تكون منافع الحر صداقا .

                                                                                                                                            استدلالا بقول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ النساء : 24 ] وليس هذا مالا ، فيصح ابتذال النكاح به ، ولأن تسليم المنفعة [ ص: 411 ] لا يصح إلا بتسليم الرقبة ، وليست رقبة الحر مالا ، فلم يجب بتسليم منفعته تسليم مال ، فلذلك لم يجز أن يكون صداقا ، ورقبة العبد مال موجب بتسليم منفعته تسليم مال ، فجاز أن يكون صداقا .

                                                                                                                                            ودليلنا : قول الله تعالى في قصة شعيب حين تزوج موسى بابنته إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج [ القصص : 27 ] يعني عمل ثماني حجج ، فأسقط ذكر العمل ، واقتصر على المدة ؛ لأنه مفهوم بينهما ، والعمل رعي الغنم ، فجعل رعي موسى ثماني سنين صداقا لبنته . وهذا نص .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا في غير شريعتنا فلم يلزمنا .

                                                                                                                                            قيل شرائع من تقدم من الأنبياء لازمة لنا على قول كثير من أصحابنا ، فلم يرد نسخ .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا منسوخ ؛ لأن شرط صداقها لنفسه ، وقد نسخ الله تعالى ذلك في شريعتنا بقوله سبحانه : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ النساء : 4 ] قيل عنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أضاف ذلك إلى نفسه مجازا لقيامه فيه بنفسه ، وإلا فهو ملك لها دونه .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه ليس نسخ حكم من أحكامه دليلا على نسخ جميع أحكامه ، كما لم يكن نسخ استقبال بيت المقدس دليلا على نسخ الصلاة التي كانت إلى بيت المقدس .

                                                                                                                                            فإن قيل : فشعيب جعل المنفعة مقدرة بمدتين ، ومثل هذا لا يجوز في شريعتنا .

                                                                                                                                            قيل : المنفعة مقدرة بمدة واحدة وهي ثمان سنين ، قال ابن عباس : كانت على نبي الله موسى ثماني حجج واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا .

                                                                                                                                            ومن طريق القياس : أنها منفعة تستحق بعقد الإجارة فصح أن تثبت صداقا كمنافع العبد ، ولأنه عقد يصح على منفعة العبد فصح على منفعة الحر كالإجارة ، ولأن كل ما صح أن يثبت في مقابلة منافع العبد صح أن يثبت في مقابلة منافع الحر كالدراهم .

                                                                                                                                            أما الآية فقد تقدم الجواب عنها .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إنها منفعة لا تجب بتسليمها تسليم مال ، فخطأ ؛ لأن الرقبة ليست في مقابلة العوض ، فيراعى أن يكون مالا ، وإنما العوض في مقابلة المنفعة فلم يؤثر فيها أن تكون الرقبة مالا أو غير مال ، فالإجارة على منافع الحر كالإجارة على منافع العبد ، وإن لم تكن رقبة الحر مالا وكانت رقبة العبد مالا ، فكذلك الصداق ، وعلى أنه لو أصدقها منافع أم ولده أو منافع وقفه ، جاز وإن لم تكن الرقبة مالا .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا فصورة مسألتنا في رجل تزوج امرأة وجعل صداقها أن يأتيها بعبدها الآبق ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون العبد معروف المكان ، تصح الإجارة على المجيء به ، فهذا صداق جائز ؛ لأن ما جازت عليه الإجارة جاز أن يكون صداقا كسائر الأعمال .

                                                                                                                                            [ ص: 412 ] والضرب الثاني : أن يكون غير معروف المكان ، فهذا لا تصح عليه الإجارة وتصح عليه الجعالة ، فلا يصح أن يكون صداقا لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مجهول المكان ، فيصير الصداق به مجهولا ، والصداق المجهول باطل .

                                                                                                                                            والثاني : أن المعاوضة عليه جعالة غير لازمة والصداق لازم ، فتنافيا ، فبطل .

                                                                                                                                            فصل : فأما المزني فإنه قال : إذا أصدقها أن يجيئها بعبدها الآبق ما يدل على أنه صداق جائز ؛ لأنه قال : فإن طلقها قبل الدخول فلها نصف أجرة المجيء بالآبق .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا هل أشار بذلك إلى الضرب الأول إذا كان معروف المكان أو إلى الضرب الثاني إذا كان مجهول المكان ؟

                                                                                                                                            فقال بعضهم : أراد به الضرب الأول مع العلم بمكان الآبق ، فعلى هذا يكون موافقا للشافعي ولسائر أصحابه .

                                                                                                                                            وقال آخرون : بل أراد به الضرب الثاني إذا كان مجهول المكان وكانت المعاوضة عليه جعالة ، فعلى هذا يكون مخالفا للشافعي ؛ لأنه قد نص على بطلان الصداق في كتاب الأم ، ومخالفا لسائر أصحابنا ، لما ذكرنا من المعنيين في تعليل بطلانه ، والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ثم طلقها قبل الدخول ، رجع عليها بنصف أجر التعليم ، ( قال المزني ) : وبنصف أجر المجيء بالآبق ، فإن لم يعلمها أو لم يأتها بالآبق رجعت عليه بنصف مهر مثلها ؛ لأنه ليس له أن يخلو بها يعلمها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : إذا أصدقها تعليم القرآن ثم طلق .

                                                                                                                                            والثاني : إذا أصدقها أن يجيئها بعبدها الآبق ثم طلق .

                                                                                                                                            فأما الفصل الأول ، وهو أن يصدقها تعليم القرآن ثم طلق ، فهو على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية