الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها )

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما بين بالبرهان العقلي إمكان القيامة، ثم أخبر عن وقوعها، ثم ذكر أحوالها العامة، ثم ذكر أحوال الأشقياء والسعداء فيها، قال تعالى : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن المشركين كانوا يسمعون إثبات القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة، مثل أنها طامة وصاخة وقارعة، فقالوا على سبيل الاستهزاء : ( أيان مرساها ) فيحتمل أن يكون ذلك على سبيل الإيهام لأتباعهم أنه لا أصل لذلك، ويحتمل أنهم كانوا يسألون الرسول عن وقت القيامة استعجالا، كقوله : ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) [الشورى : 18] ثم في قوله : ( مرساها ) قولان : أحدهما : متى إرساؤها، أي إقامتها، أرادوا متى يقيمها الله ويوجدها ويكونها . والثاني : ( أيان ) منتهاها ومستقرها، كما أن مرسى السفينة مستقرها حيث تنتهي إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن الله تعالى أجاب عنه بقوله تعالى : ( فيم أنت من ذكراها ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : معناه في أي شيء أنت عن تذكر وقتها لهم، وتبين ذلك الزمان المعين لهم، ونظيره قول القائل إذا سأله رجل عن شيء لا يليق به : ما أنت وهذا؟ وأي شيء لك في هذا؟ وعن عائشة : " لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية " فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل : في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، والمعنى أنهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إلى ربك منتهاها ) أي منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه . الوجه الثاني : قال بعضهم : ( فيم ) إنكار لسؤالهم، أي فيم هذا السؤال، ثم قيل : ( أنت من ذكراها ) أي أرسلك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذكرا من أنواع علاماتها، وواحدا من أقسام أشراطها، فكفاهم بذلك دليلا على دنوها ووجوب الاستعداد لها، ولا فائدة في سؤالهم عنها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إنما أنت منذر من يخشاها ) وفيه مسائل : [ ص: 49 ] المسألة الأولى : معنى الآية أنك إنما بعثت للإنذار، وهذا المعنى لا يتوقف على علمك بوقت قيام القيامة، بل لو أنصفنا لقلنا بأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه -عليه الصلاة والسلام- منذر للكل إلا أنه خص بمن يخشى، لأنه الذي ينتفع بذلك الإنذار .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرئ منذر بالتنوين وهو الأصل، قال الزجاج : مفعل وفاعل إذا كان كل واحد منهما لما يستقبل أو للحال ينون، لأنه يكون بدلا من الفعل، والفعل لا يكون إلا نكرة ويجوز حذف التنوين لأجل التخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية