الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأعمال التي يدوم ثوابها في الحياة وبعد الممات

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله» الذي كان يعمله في الحياة الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، من الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، ودرس العلم: علم السنة والكتاب، والاشتغال بهما تعلما وتعليما، وبلاغا لقوم آخرين، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة، والأقوال الحسنة، والأفعال الطيبة.

«إلا من ثلاثة: صدقة جارية» بعده، دائمة باقية مستمرة؛ كالأوقاف وسبل الخير؛ من الآبار، والحياض، والمساجد، والرباط، والمدارس، ونحوها، وسيأتي بيان ذلك في حديث أبي هريرة قريبا إن شاء الله تعالى.

«أو علم ينتفع به» قيد العلم بالانتفاع؛ ليعلم أن المراد به: علم الكتاب والسنة، دون علم آراء الرجال، ومقالات الأقوام.

ويدخل في هذا: تعليم العلم باللسان، وتصنيف الكتب المتبعة بها في إخلاص الإسلام، ونسخها بالبنان، وإشاعتها في نوع الإنسان، وتركها في الأخلاق والأحباب، مريدا بذلك وجه الله تعالى، لا الشهرة في الفضلاء والجهلاء رياء وسمعة؛ فإنهما شرك، ويذهبان ببركة العلم.

[ ص: 212 ] «أو ولد صالح يدعو له» بعد ذهابه من هذا العالم الفاني، إلى العالم الروحاني.

قال في الترجمة: عد الولد من عمل الوالد؛ لأنه ولد منه، وجاء في الوجود، ورتب عليه وصول الثواب إليه. انتهى رواه مسلم.

والحديث دليل على أن الدعاء من الحي ينفع للميت، والقيام به من الولد من صلاحه، ومن لا يدعو لأبويه، فإنه غير صالح في نفسه، وغير بار بهما.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره» فيه فضيلة التعلم والتعليم، والمراد بالعلم: علم الكتاب والسنة كما تقدم، لا غير؛ فإن غيره فضل، ولا يعني، وقد قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

قال في الترجمة: وروي: «علمه» بالتشديد، وعلى هذا يكون النشر تفسيرا وبيانا له، أو المراد: كثرة التعليم والإشاعة. انتهى.

وقد علم عصابة السنة من هذه العلوم السنية والفنون السنية ما لم يكن بحساب، وعلموها، ونشروها إلى غاية لا يتصور المزيد عليها في كل زمان، وهدى الله من شاء من عباده إلى الاعتصام بها، وترك التقليد، ومنهم من علم، ومنهم من نشر وأشاع وأذاع. كل على حسب إمكانه وقدرته، ومنهم من جمع بين التعليم والنشر بالتأليف والتصنيف.

قال في «المرقاة» : النشر يعم التعليم والتأليف، ووقف الكتب. انتهى. والله المستعان وبه التوفيق.

«وولدا صالحا تركه» تقدم الكلام عليه، وصلاحه: أن يكون داعيا لوالده بعد مماته، عالما، عاملا بالسنة في السر والعلن «أو مصحفا ورثه» بتشديد الراء؛ أي: ترك المصحف، أو وقفه في حال حياته على أهله.

وفيه: أن نشر القرآن الكريم على قاريه من الولدان، والشبان، والشيوخ، ومن يلوذ به، بحمل تكاليف الكتابة، أو الطباعة، من الصالحات الباقيات بعده.

[ ص: 213 ] وقد رأينا أناسا كثيرا صالحين، ورثوا المصاحف الكثيرة البالغة إلى آلاف في البلاد القريبة والبعيدة، ومنهم من ترجمها في الألسن المختلفة؛ تسهيلا لدرك معانيها، وترويجا لما فيها من الآيات والزبر والبينات، ونشرها إلى أقصى ما بلغت إليه قدرته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

«أو مسجدا بناه» وفي حديث آخر: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» ولا فرق في ذلك بين مسجد كبير ومسجد صغير؛ لورود الحديث فيه، وهو قوله: «كمفحص قطاة» وفضل الله أوسع من ذلك.

«أو بيتا لابن السبيل» ينزلون فيه ليلا أو نهارا، ويستريحون فيه «أو نهرا أجراه» وسبله على المسلمين، وفي حكمه حفر البئر لهم، والحياض والجداول، ونحوها؛ مما ينتفع به الناس والدواب، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، ويشملها إخراجها في المرض المرجو صحته.

والظاهر: أن المراد بهذا: صدقة التطوع والخيرات النافلات.

ولا فرق في ذلك بين صدقة كثيرة وصدقة قليلة؛ فإن المتصدق إنما يتصدق على قدر ملكه وسعته، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأفضلها جهد المقل.

وقد يثيب الله تعالى الفقير على صدقته القليلة ما لا يثيب الغني على صدقته العظيمة.

والشرط فيها أن تكون من المال الحلال، وفي سبيل الله، خالصا مخلصة له؛ لقوله سبحانه: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة: 27].

وإني -والله- أرى ناسا كثيرا من الأغنياء يتصدقون بأموال كثيرة على عامة الناس، لكن من دون امتياز بين المال الحلال والحرام منه، ومن غير فرق بين محلها وغير محلها.

[ ص: 214 ] ولو أنهم أنفقوا على وجه ورد به الكتاب والسنة، وفي محالها الصالحة، لكانت شيئا آخر تلحقه من بعد موته. يعني: تلحق هذه الأشياء من العمل الصالح؛ أي: أجرها مسلما بعد وفاته، فضلا من الله عليه.

وكرر لفظة «بعد موته» تأكيدا لما سبق، أو هي متعلقة بالصدقة خاصة اهتماما بشأنها.

وقيل: المراد: أن تبقى هذه الصدقة بعد موته حتى تدخل في الصدقة الجارية.

وفي الحديث زيادة على ما في الحديث المتقدم، للعلم بها بعده. رواه ابن ماجه، والبيهقي في «شعب الإيمان».

وورد في أحاديث أخرى ما يزيد على ذلك العدد حتى بلغه السيوطي وغيره إلى عشرة أشياء، ونظمه بعضهم، ويقال لهذه: الباقيات الصالحات، اللهم ارزقنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية