الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه [ المشي ] إليه بحج أو عمرة ، لأنه لا قربة في المشي إليه إلا بنسك ، فحمل مطلق النذر عليه ، ومن أي موضع يلزمه المشي والإحرام ؟ فيه وجهان : قال أبو إسحاق . يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله . لأن الأصل في الإحرام أن يكون من دويرة أهله ، وإنما أجيز تأخيره إلى الميقات رخصة ، فإذا أطلق النذر حمل على الأصل ، وقال عامة أصحابنا : يلزمه الإحرام والمشي من الميقات ، لأن مطلق كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع والمعهود هو من الميقات ، فحمل النذر عليه ، فإن كان معتمرا لزمه المشي إلى أن يفرغ ، وإن كان حاجا لزمه المشي إلى أن يتحلل التحلل الثاني لأن بالتحلل [ ص: 490 ] الثاني يخرج من الإحرام ، فإن فاته لزمه القضاء ماشيا لأن فرض النذر يسقط بالقضاء فلزمه المشي فيه كالأداء ، وهل يلزمه أن يمشي في فائته ؟ فيه قولان ( أحدهما ) يلزمه ، لأنه لزمه بحكم النذر ، فلزمه المشي فيه ، كما لو لم يفته ( والثاني ) لا يلزمه لأن فرض النذر لا يسقط به ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب : إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي إليه بحج أو عمرة ، هذا هو الصواب الذي قطع به الأصحاب ، وسبق حكاية خلاف شاذ فيه في فصل من نذر صلاة في المسجد ، وهل يلزمه المشي ، أم له الركوب ؟ فيه قولان مشهوران في كتب الخراسانيين ( أصحهما ) عندهم يلزمه ، وبه قطع المصنف وآخرون ، لأنه مقصود ( والثاني ) لا ، بل له الركوب قالوا : هما مبنيان على أن الحج راكبا أفضل أم ماشيا ، وفيه ثلاثة أقوال سبقت في أول كتاب الحج بدليلها ( أصحها ) الركوب ( والثاني ) المشي ( والثالث ) هما سواء ، ولا فضيلة لأحدهما على الآخر ، وقال ابن سريج : هما سواء ما لم يحرم فإذا أحرم فالمشي أفضل ، وقال الغزالي في الإحياء : من سهل عليه المشي فهو أفضل في حقه ، ومن ضعف وساء خلقه لو مشي فالركوب أفضل .

                                      ( والمذهب ) أن الركوب أفضل مطلقا ، قالوا : فإن قلنا : " المشي أفضل " لزمه بالنذر ، وإن قلنا : الركوب أفضل أو سوينا لم يلزمه المشي بالنذر ، والمذهب لزوم المشي ، ويتفرع عليه مسائل : ( إحداها ) لو صرح بابتداء المشي من دويرة أهله إلى الفراغ ، لزمه المشي من حين يحرم ، وهل يلزمه قبل الإحرام ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) يلزمه ، فلو أطلق الحج ماشيا ، فإن قلنا لا يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح فهنا أولى وإلا فثلاثة أوجه .

                                      ( أحدها ) يلزمه المشي من دويرة أهله ، وهو قول أبي إسحاق ( والثاني ) من الميقات ( والثالث ) وهو الأصح يلزمه من الميقات ، إلا أن يحرم قبله فيلزمه ( وأما ) الإحرام فالأصح أنه يلزمه من الميقات ، وهو قول جمهور أصحابنا كما حكاه المصنف [ ص: 491 ] والثاني ) من دويرة أهله حكاه المصنف والأصحاب عن أبي إسحاق ، وجعل المصنف والمتولي وغيرهما المشي مبنيا على الإحرام إن قلنا يلزمه الإحرام من الميقات فكذا المشي وإن قلنا من دويرة أهله فكذا المشي ، هذا كله إذا قال : لله علي أن أحج ماشيا فلو قال : أمشي حاجا فوجهان ( الصحيح ) أنه كقوله أحج ماشيا ، ومقتضى كل واحد منهما وجوب اقتران الحج والمشي ( والثاني ) أنه يقتضي أن يمشي من مخرجه إلى الحج .

                                      ( الثانية ) في نهاية المشي طريقان ( أصحهما ) يلزمه المشي حتى يتحلل التحللين إن كان محرما بالحج ، وبهذا الطريق قطع المصنف هنا والجمهور ، وهو المنصوص ، وله الركوب بعد التحللين ، وإن بقي عليه رمي أيام التشريق ، وهذا لا خلاف فيه ( والطريق الثاني ) فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين والغزالي وغيرهما ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) له الركوب بعد التحلل الأول ( وأما ) المحرم بالعمرة فيلزمه المشي حتى يفرغ منها بلا خلاف . قال الرافعي : والقياس أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها ، فله أن يركب ، قال : ولم يذكره الأصحاب ، فهذا ما ذكره ما لأصحاب في هذه المسألة .

                                      وأما قول المصنف في التنبيه : ولا يجوز أن يترك المشي حتى يرمي في الحج ، فمخالف لما ذكره هو هنا والأصحاب في جميع الطرق ، وأقرب ما يتأول عليه كلامه أنه أراد بالرمي رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وفرع على أن الحلق ليس بنسك وعلى الوجه الشاذ الذي ذكره إمام الحرمين والغزالي أنه يكفيه المشي حتى يتحلل التحلل الأول ، فعلى هذا الوجه إذا رمى جمرة العقبة وقلنا : الحلق ليس بنسك جاز الركوب لحصول التحلل الأول ، ولا يجوز أن يحمل كلامه على رمي أيام التشريق ، لأنه لا خلاف أنه يجوز الركوب بعد التحللين ، وقبل أيام التشريق والله تعالى أعلم .

                                      ( الثالثة ) إذا فاته الحج لزمه قضاؤه ماشيا لما ذكره المصنف ، وهل [ ص: 492 ] يلزمه المشي في تمام الحجة الفائتة حتى يفرغ منها ؟ والتحلل بأعمال عمرة ؟ فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) عند الجمهور لا يلزمه ، ولو أفسد الحج بعد شروعه فيه لزمه القضاء ماشيا ، وهل يلزمه المشي في المضي في فاسده ؟ فيه هذان القولان .




                                      الخدمات العلمية