الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بلاغة القص في القرآن الكريم وآفاق التلقي

الدكتور / سعاد الناصر

تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله، الذي جعل وراثتنا الحضارية القرآن (الكتاب)، بكل فضاءاته وآفاقه وأبعاده وعمقه التاريخي ومنهجه في التعامل مع الحياة والأحياء وإجاباته عن التساؤلات الكبرى، التي كانت ولا تزال تؤرق الإنسان، بسبب الحيدة عن قيم الفطرة، فقال تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) (فاطر:32)، وجعله مصدقا لما سبقه من الكتب، ومستصحبا مضامينها وقصص أنبيائها وسيرهم وتجاربهم مع الحياة، ومصوبا للرؤى الدينية والحضارية السابقة، ومهيمنا عليها، رقيبا مبينا مواطن التحريف والتبديل، كاشفا لرحلة العبث الإنساني بنصوص الكتاب الإلهي، الأمر الذي أدى تاريخيا للانحراف بالتدين والممارسة عن قيم الدين وأصوله في الكتاب، يقول تعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48).

وبذلك، يصبح التمسك بالكتاب والتزام قيمه هو أعلى أنواع الإحسان، يقول تعالى: ( والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر [ ص: 5 ] المصلحين ) (الأعراف:170)، ويصبح الالتزام بالقرآن والدعوة إلى قيمه بالتي هي أحسن وبيان مقاصده يمثل قيمة الجهاد الكبير في أنشطة الإنسان المسلم: ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52).

ولهذا الجهاد الكبير وهذه المجاهدة الدائبة مجالات وأبعاد دعوية وثقافية ولغوية وحضارية وأدبية وفنية وتشريعية وتربوية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية.... إلخ.

وحسبنا أن نعلم أن الكتاب (القرآن)، في تاريخ النبوة والثقافة والحضارة الإنسانية، هو معجزة الرسالة الخاتمة، جماع النبوة، وهو محل التحدي والترقي، فاستيعاب المعجزة والاستجابة للتحدي وتلمس جوانب بيانها ومحاولة محاكاتها، على مختلف الأصعدة، كان ولا يزال المحور والمحرك الثقافي ومصدر النشاط الذهني والعقلي والإبداعي للإنسان، سواء في ذلك المؤمن به، الذي يقرأ ويتدبر ويرتقي، أو الجاحد له، الكافر به، مدافعة ومكايدة، حيث الكتاب هو بؤرة الاهتمام ومركز الانطلاق.

ويمكن القول: إن معجزات الأنبياء، التي رافقت الطفولة والتمييز البشري مادية، جاءت ضمن إطار "عالم الأشياء" المشهودة، وإن معجزة الرشد الإنساني الخالدة عقلية، جاءت في إطار "عالم الأفكار" المجردة.

والصلاة والسلام على النبي الأنموذج للإنسان القرآني، المثل الكامل للتأسي والاقتداء، ودليل العمل والتعامل مع مجالات الحياة جميعها، الذي اجتمعت له كمالات الأنبياء، وانتهت إليه رسالاتهم وسيرهم وتجاربهم مع [ ص: 6 ] أقوامهم، لتكون تلك القصص والتجارب، له ولأمته، عبرة تمكنهم من العبور للمستقبل بأمن وسلام، وتبصرهم ببناء الإنسان والحياة بعيدا عن الإصابات، التي لحقت بالأمم السابقة، حيث اختزلت النبوة الخاتمة خصائص وصفات الأنبياء في شخصه، عليه الصلاة والسلام، والرسالات السابقة في رسالته، فجاء رحمة للعالمين: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، لذلك فالمؤمن به مؤمن بكل الأنبياء، الذين ابتعثوا لاستنقاذ الإنسانية: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) (البقرة:285).

فالقرآن سجـل تاريخـي لحضارة النـبـوة، وقـصـص النـبـوة دليل لإعادة بناء حضارتـها وتحقيق أمنها وانسجامها، والحيلولة دون الصراع والتسلط والهيمنة والاستكبار.

وبعد:

فهذا "كتاب الأمة" التاسع والستون بعد المائة: "بلاغة القص في القرآن الكريم .. وآفاق التلقي"، للدكتورة سعاد الناصر، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في اجتهادها الدائب للعودة بالأمة إلى الكتاب (القرآن)، ومعايرة وتقويم واقعها بقيمه، والبحث عن ذاتها والإجابة عن إشكالياتها الكبرى فيه، وإعادة الكتاب إليها ليكون مصدر حياتها ومناط سلوكها ومحل مرجعيتها والمهيمن الأساس على ثقافتها ودليل عملها وتعاملها، [ ص: 7 ] والخلوص من حالة الهجر والقطيعة، التي حذر منها إمام البيان، عليه الصلاة والسلام، وحكاها القرآن، يقول تعالى: ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) (الفرقان:30)، وتصويب الالتباس الحاصل لمفهوم الهجر، وتبين أبعاده.

لذلك فقد يكون من الأهمية بمكان العمل على دفع التوهم أن معالجة حالة القطيعة والهجر إنما تكون بمزيد من التلاوة والحفظ وكثرة ختم القرآن وزيادة عدد المراكز والخلاوى والكتاتيب ومؤسسات التحفيظ والقراءة فقط، على ما في ذلك من خير وعطاء، على مستوى سكينة النفس واطمئنان القلب وانشراح الصدر وبناء الملكة اللغوية واستقامة اللسان وتخصيب الخيال وتذوق الجمال، لكن ذلك يشكل بعض المقصود، أو بعض المطلوب، الذي يتطلب بعدا آخر يحقق المطلوب من تعلم القرآن وتعليمه، الذي يمنح الخيرية للأمة: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) (أخرجه البخاري)، حيث لا تتحقق تلك الخيرية - والله أعلم- إلا بالمدارسة ( وكان يلقاه (أي جبريل) في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ) (أخرجه البخاري)، والتـدبر، الـذي يقود إلى الفقه والـفـرقـان وحسن تدبير الأمـور وإبصار الحـلـول للـمـشـكلات الحيـاتـيـة: ( ليدبروا آياته ) (ص:29)، والارتقاء في مدارج الكمال: ( اقرأ وارتق ) (أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح).

ولعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن أم لبيد رضي الله عنه يشكل التشخيص الدقيق والرؤية المبكرة المعصومة لحال الأمة، التي صارت وتصير إليها، لعلها تحذر، [ ص: 8 ] وذلك عند ( ذهاب العلم ) ولو بقي الحفظ، عندما يذهب التدبر والتعلم والمدارسة وتبقى القراءة والاستظهار والتلاوة، فعن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: ( وذاك عند أوان ذهاب العلم ) قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ( ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟ ) (أخرجه أحمد).

وقد يكون من الأهمية بمكان أن نفتح بعض النوافذ على فهم جيل خير القرون، جيل الاتباع، وكيفية تعاملهم مع القرآن، ذلك الفهم والتعامل، الذي جعل منهم الرواد وخير القرون، وجعل القرآن مصدر ارتقائهم وعطائهم وفقههم وفرقانـهم، الذين كانوا به خـير أمة أخرجت للناس، وتأهلوا به ليـكونوا أمـة وسطا تمتلك المنهاج والمعيار للشهادة على الناس، وإبلاغهم الحق، وقيادتـهم إلى الخـير، فعن عثمان وابن مسعود وأبي، رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهـم العشر فـلا يجاوزونها إلى عشـر أخـرى حـتى يتعلموا ما فيها من العمل" فتعلموا العلم والعمل جميعا (سنن أبي داود).

وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن; وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به" (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن). [ ص: 9 ]

وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به" (القرطبي، الجامع).

والحقيقة، التي لا مرية فيها، أن جيل خير القرون القدوة، جيل المعرفة القرآنية والتربية النبوية، كانوا يعملون بالقرآن ولا يقولون، وأعقبتهم أجيال يعملون بالقرآن ويقولون فيه، ثم أعقبتهم أجيال يقولون في القرآن ولا يعملون بهديه، وهناك بعض لا يقولون ولا يعملون فتعطل العقل والنقل معا، وبذلك انتقـلت إلينا عـلل الأميـين من الأمـم السـابـقـة، الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، يقول تعالى: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) (البقرة:78)، أي لا يـعـلـمـون الـكتاب إلا تـلاوة وترتـيـلا، قـال ابن تيمية، رحمه الله، عن ابن عباس وقتادة، رضي الله عنهم، في قوله تعالى: ( ومنهم أميون ) : أي غير عـارفين بمعاني الكتاب، يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم، لا يعلمون فقه الكتاب.

ولـقـد توهـم الـكثير منـا أن إنـهاء القطيعة ومعالجة حالة الهجر إنما يكون -كما أسلفنا- بكثرة التلاوة واستظهار القرآن وتحويله إلى لون من الاحتراف وارتياد مجالس العزاء ومدافن الموتى، أو الاقتصار على رقية المرضى، أو جزءا من برامج افتتاح الاحتفالات الرسمية؛ أما في المؤسسات التعليمية، فمعظم الدراسات القرآنية غالبا ما تدور فيما بحثه الأقدمون حول علوم القرآن، بشكل عام، والجدل حول ما يدخل من الدراسات ضمنها أو ما يخرج عنها، والفرق بين [ ص: 10 ] التفسير والتأويل، والجدل حول علاقة القرآن والسنة، فهل السنة مبينة للقرآن وحاكمة عليه، أو أن القرآن هو الحاكم على السنة والمهيمن عليها؟

وتلك الدراسات غالبا ما تدور ضمن عقول وإنتاج السابقين، من تحقيق ونشـر واخـتـصـار وشـرح وتـعـلـيـق، دون محاولة التفكير بتجاوز ذلك إلى أفق أو ملمح جديد، أو النظر من زاوية إضافية، وامتلاك القدرة على تعدية رؤية السابقين إلى مجرد مثل جديد.

لذلك يلف معظم الدراسات الركود والتقليد والتكرار، والتخطيء والتصويب، وبالإمكان القول: إن المحاضرات والكتب، التي كانت مقررة قبل قرون ما تزال هي هي، دون إضافة أو تجديد أو نظر أو اجتهاد، اللهم إلا في الطباعة، رغم تغير الظروف والأحوال والمعطيات الثقافية والمعرفية والمشكلات وأسئلة الحياة، التي تتطلب من الوحي الخالد الإجابة عنها والتي تتمثل بكيف نقرأ القرآن ونتدارسه من خلال الواقع، الذي نعيشه، وكيف نبصر الخلل الواقع في حياتنا ونعالجه من خلال تقويمه بقيم القرآن؟

أما الأنشطة القرآنية، ومعها الكثير من المؤلفات القرآنية، التي تشكل صدى لها، فلا تخرج في معظمها عن ثقافة المناخ السائد والذهنية القائمة في كيفية التعامل مع القرآن.. وقد تكون إشكالية التخلف الكبرى في الإعلان عن عناوين كبيرة، والاقتصار على المضامين البسيطة، التي مضى عليها عهد طـويل ولم تحرك ساكنا، ولم تغـير حـالا، ولم تقلـق القائمـين عليها لإعادة النظر في أدائها. [ ص: 11 ]

وهذه الحالة من الركود والجمود على الحال، والانكفاء على الذات، والاتكاء على عطاء الماضي فقط، والعيش ضمن دائرة غربة الزمان وما تنتجه من العطالة، وتغييب ملكة النظر والتدبر، الذي يقود إلى التدبير للواقع، والاعتبار والتأمل، الذي يقود إلى العبور للمستقبل الآمن، والحذر من الإصابات، التي لحقت بالأمم السابقة، والاهتداء بهداية القرآن، والاستدلال بدليله لمنعرجات الحياة، والتعاطي معها؛ هذه الحالة، التي عليها القرآن من الهجر والقطيعة اليوم، رغم وجود كتاتيب وخلاوى وكليات وجامعات وأساتذة متخصصون، دفعت بالكثير من خارج الساحة والتخصص الشرعي لوضع رؤى ونظرات واجتهادات ومؤلفات ومجازفات ومحاولات للتعامل مع القرآن، الوحي الإلهي، كنص تراثي خاضع لكل مقاييس النظر والفحص والاختبار والاستنتاج، التي يخضع لها إنتاج البشر، ومحل لإعمال جميع المناهج الاجتماعية والنفسية واللسانية، والخروج بنتائج ومجازفات خطيرة، أما دورنا حيالها فلم يتجاوز، في الأعم الغالب، الموقف الدفاعي، أو التشنيع على الآخرين، وشتيمتهم، دون إيجاد البدائل والمناهج والنتائج الموضوعية المقنعة المستوحاة والمتولدة من الذات، من القرآن.

وكلـنـا يعـتـقـد أن الـقـرآن كتاب خـالـد، وأبسـط معـاني الخلود القدرة على الإنتاج وتقديـم الحـلـول للمـشـكلات، في كل زمان ومكان، والإجابة عن أسئلة الإنسان في كل زمان، لذلك فالاقتصار على الإجابات السابقة يعني - فيما يعني - محاصرة الخلود، ويبقي الخلود دعوى بلا دليل، وتصبح الخطورة [ ص: 12 ] أشـد عندما يحاصر خـلـود الـقـرآن مـن أصـحـاب التخـصـصات القرآنية والتي لا تبلغ المدى المطلوب لها.

والحقيقة، التي لا مرية فيها أن النقلة الحضارية أو الوثبة الحضارية ومعالجة حالة التخلف والركود الحضاري تكاد تصبح مستحيلة إذا بقيت مؤسساتنا الثقافية والأكاديمية على ما هي عليه، وبقيت منهاجنا على ما هي عليه، وبقي تعليمنا على ما هو عليه، فكيف يمكن أن يتغير الواقع إذا لم تتغير أدواته ووسائله وأنماط تفكيره؟ فإذا استمر تعاملنا مع القرآن ومعطيات الوحي، بشكل عام، على ما هي عليه فسيبقى حالنا مستمر على ما هو عليه!

إن التحول من إبصار الأهداف والمقاصد إلى التمحور حول الوسائل والأدوات وتقديسها والجمود عليها، رغم تغير الظروف والأحوال والمعارف والإشكاليات، سوف ينتهي بنا إلى المراوحة في المكان الواحد، حتى ولو توهمنا أننا نقطع المسافات، لكننا في الحقيقة نقطع نعالنا!

إنها مرحلة "ذهاب العلم" الذي أخبر عنها الصادق المصدوق مبكرا لابن أم لبيد رضي الله عنه لتأخذ الأمة حذرها فلا تسقط في حقيقة "ذهاب العلم" دون أن تـدري، وتستغـني بالشـكليات والوسائل، التي تعطل عطاءها، دون أن تدرك الخـلل فتصلحـه، وإنما تستكبر وتستكثر وتكرس العطالة، وتفتح مزيدا من المؤسسات على نفس المنوال دون أن تقوم وسائلها وأداءها وتكتشف مواطن الخلل وضلال السعي... لذلك فسوف يستمر الوهم بأنها تحسن بذلك صنعا. [ ص: 13 ]

والأشد خطرا في ذلك أن نسمي نقل تلك الوسائل من جيل إلى جيل علما، والحقيقة أنها تمثل "ذهابا للعلم"، فأين التغيير؛ ومن أين يأتي؟ وما هي أهدافه؟ وكيف نبدأ به ونتوفر عليه ونستدركه من أهل التخصص، أهل الحل والعقد - ولكل قضية أهل حلها وعقدها- ونتوقف عن السقوط في محذور قوله تعالى: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا ) (يونس:39)؟

فإلى متى يستمر الادعاء، والغش الثقافي، والوهم الأكاديمي، والدوران في الحلقات المفرغة، وطحن الماء، والنتائج ما تزال توبخ القائمين على أمرها، الأمر الذي يلخصه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وذاك عند أوان ذهاب العلم ) واستهجان ابن أم لبيد ذلك، ومؤسسات التعليم والقراءة قائمة؟

فنحن ما نزال نقرأ القرآن، ونقرئه لأبنائنا دون أن نسأل عن محصلة القراءة، وكيفية القراءة، وطريقة القراءة، وعطاء القراءة في النفس والمجتمع، ولماذا لم تحقق الارتقاء، الذي يشكل غاية القراءة: ( اقرأ وارتق ) في الفكر والفعل؟

أما ما نراه من محاولات بعض الفهوم المعوجة من إسقاط أحكام القرآن على الواقع دون فقه بالقرآن وفهم للواقع، وفقه بالاستطاعة، وتوفر شروط التكليف، فإنما يعني المزيد من الارتكاس وإسقاط آيات القرآن وأحكام الشرع على غير محالها، ودون أن نوفر لها الشروط المطلوبة، حتى لقد تحولت القراءة من حل إلى مشكلة، وأصبح الجهل والأمية أسلم من المعرفة بالأبجدية فقط وذهاب العلم، والتعسف في الفهم، والتطلع إلى العناوين الكبيرة، حتى ولو كانت المضامين متواضعة جدا. [ ص: 14 ]

فهل وقعنا في علل الأمم السابقة، الذي حذرنا القرآن من السقوط فيها بقوله تعالى: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) (البقرة:78)، (يقرأونه دون أن يعلموا ما فيه) مجرد قراءة!؟

ويبقى السؤال الكبير المطروح في كل حين وآن: كيف نقرأ القرآن؟ وهل المكسب فقط أن نتلو ونحفظ فقط دون أن نتحقق برسالة القراءة وعطائها؟ كيف نتعلم القرآن ونعلمه حتى تتحقق لنا الخيرية: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (أخرجه البخاري)، ونحقق التزكية والحكمة، ونسترد أبعاد البعث النبوي وآفاقه الواردة في قوله تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2)؟

وكيف نتحقق بالقراءة القاصدة المتدبرة، التي تتوقف معها حياة الضياع ورحلة التيه والضلال، ومتى تكون قراءة القرآن وسماعه سبيل العروج والهداية والرشد واكتمال العقل: ( إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) (الجن:1-2)؟

كيف نتعامل مع القرآن؟ وهي تكفي الأدوات والوسائل والمناهج الحالية والتيبس على المؤسسات القائمة، وهل تحقق الغرض المقصود، وواقع الحال والفهم، الذي عليه الطلبة والخريجون والدارسون والمدرسون شاهد إدانة لا يدع استزادة لمستزيد؟ [ ص: 15 ]

وهل تحولت الوسائل إلى أشياء مقدسة غير قابلة للنظر والتطور والاجتهاد حتى ولو توقفت عن العطاء؟ هل أصبحت غايات بحد ذاتها وسبيلا للارتزاق فقط؟

وهل حدود فهم القرآن الكريم وقف على زمن معين دون سائر الأزمان، وإلى أي مدى يشكل هذا الاعتقاد حجرا على فضل الله وعطائه لكل الناس وكل الأزمان؟

وكيف يتفق ذلك مع اعتقاد خلود القرآن وتجرده عن حدود الزمان والمكان وفهم الإنسان، وقدرته على الإنتاج في كل زمان ومكان، والاعتقاد بأن القرآن مائدة مفتوحة وفضاء مفتوح على الزمن، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأن معارف كل عصر معوان لمزيد من النظر والاكتشاف والتدبر ومحاكاة الإعجاز، حيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن لكل زمان مشكلاته وأسئلته واستنطاقه لكتاب الله الخالد؟

كيف نجد أنفسنا في القرآن، ونهتدي إلى معالجة مشكلاتنا وإصلاح حالنا، ونجد الإجابة عن أسئلتنا والمخارج لمعاناتنا والمقاصد لوجهاتنا؟ كيف نسترد البوصلة القرآنية لتوجيه حياتنا؟

ومهما تنوعت دراساتنا حول القرآن وتشعبت اهتماماتنا وذهبت تخصصاتنا يبقى محور القرآن الأساس: صناعة الإنسان؛ تربية الإنسان؛ الارتقاء بخصائص الإنسان؛ تنمية الإنسان؛ استنقاذ الإنسان وإلحاق الرحمة به؛ تحقيق خلاص الإنسان؛ وبكلمة مجملة: الهداية للتي هي أقوم. [ ص: 16 ]

ولعل البلاغة القرآنية والإعجاز البياني في استخدام كل الوسائل والأساليب الفاعلة والمؤثرة والمتنوعة في بناء الإنسان وصناعته..... فالمثل، والقصة، والتاريخ، والحوار، والجدال، والبرهان، والعرفان، والبيان، بكل أنواعه، والمقاربة، والمقارنة، والاستقراء، والاستنتاج، والاعتبار، والسير في الأرض، والدعوة إلى النظر والتفكر في الكون، واستكناه النواميس العاملة فيه، واستقراء السنن والقوانين الاجتماعية الفاعلة في الاجتماع البشري، وقوانين العمران، وسنن النهوض والسقوط، والترغيب والترهيب، وصنوف القول وأساليب الإعجاز... كلها في نهاية المطاف ما هي إلا أدوات ووسائل لصناعة الإنسان، وتربية الإنسان، وهدايته للتي هي أقوم، وحمايته من المخاطر والانحرافات، وتوجيهه الوجهة السليمة.

فالقرآن خطاب الإنسان، لذلك استخدم كل الوسائل، التي تتناسب مع مكوناته وتطلعاته وأشواقه وفطرته وغريزته، وبكلمة مختصرة: "جبلته"، وتساهم بتنشئته، أو بإعادة تشكيله.

ولعل جملة الدراسات والاهتمامات المتعددة، التي نشأت حول هذه الوسائل: القصة، والمثل... وتلمس سائر وجوه الإعجاز والسنن ..... إلخ، وأساليب القرآن، إنما تمحورت حول الوسائل والأدوات المتعددة، ولكنها حتى ولو تفردت بالدرس والبحث يبقى ذلك في إطار الوسائل، التي لا بد أن تستصحب في نهاية المطاف البعد الأساس، والهدف الأساس، وتعاير وتقوم بمدى بلوغها وأدائها ذلك، وعدم التوقف عند مكوناتها وبلاغتها وفنيتها. [ ص: 17 ]

ولعلنا نقول: إن معظم الدراسات والكتابات، التي تمحورت حول القرآن وعلومه وإعجازه وحفظه ونقله وقراءاته وأساليبه وأغراضه والتي ما نزال نبدي فيها ونعيد، جاءت كلها حول صحة النص وعصمته، وتواتر نقله، ومناهج فهمه وتفسيره، والقليل القليل اتجه نحو كيفية التعامل مع النص القرآني وإعماله في حياتنا؛ حتى دراساتنا حول النص القرآني ما نزال نغترف مما وضعه الأقدمون، ولم نتعد أو نتجاوز ما أنتجوه.

وقد تكون الإشكالية الكبيرة محاصرة النص القرآني، وذلك بالتخويف من التفكير في آياته وعطائها، وإحاطته بأسوار من القدسية، وجعل النظر والفهم، وقفا أو حكرا على طبقة معينة أو مستوى معينا، وتلك إحدى العلل الكبرى، التي لحقت بالأمم السابقة وبكتابها (حملة الكتاب المقدس)! وكأن العقل قد توقف، ومعاني القرآن قد نضبت، وكأن عطاءه جاء مناسبا لفترة زمنية مضت وانتهت، وخلوده وقدرته على الإنتاج دعوى بلا دليل!

ويبقى السؤال الأهم: لماذا هذه الدراسات؟ وما هي الأهداف والمقاصد المرجوة منها، في مختلف الآفاق؟ وهل توصلت إلى ملامح وآفاق جديدة، وقدمت النظر من زوايا جديدة إلى النص من خلال واقع الحياة واختلالاتـها، أم اكتفت بالتعريف للوسيلة، والوصف لها، وما قاله الأقدمون بشأنها، دون تقديم أية إضافات؟ والأخطر في الموضوع تسمية ذلك علما دون أن يحدث ثمراته، التي وجد من أجلها! [ ص: 18 ]

فالأمر في معظمه دوران في عقول السابقين، وفي هذه الحال ستبقى المشكلات إما معلقة وإما مؤهلة لاستدعاء (الآخر)، بثقافته وحلوله؛ لملء الفراغ.. ولعل الإلقاء بالتبعة والمسؤولية على (الآخر) لإعفاء (الذات)، في المجال العلمي والثقافي، أمر محزن وبائس؛ فكيف السبيل إلى معرفة حدودنا ومسؤولياتنا عن أمتنا وكتابها الخالد؟

فأين نحن من القرآن؟ وأين القرآن منا؟

فالقرآن عندنا انتهى، في واقع الحال وفي الغالب الأعم، إلى صفحات الذاكرة، التي تجتـهد في تكراره ومراجعته خشية نسيانه أو ضياع بعض آياته، أو التلاوة ومعاودة التلاوة، التي قد لا تتجاوز اللسان والحنجرة.

اليوم، بات يستغرقنا الجدل حول عظمة القرآن، وإعجاز القرآن، والاقتصار على رفع الشعارات عن أهمية تحكيم القرآن في حياتنا، وأن القرآن دستورنا، عن تنزيل القرآن على واقعنا والالتزام بتكاليفه، ضمن استطاعاتنا، والتحول من الجدل حول الموضوع إلى العمل بالموضوع.

إن المعرفة بالمنهج وسائر الوسائل والأدوات ما لم توصل إلى الإنتاج المأمول وتعالج المشكلات، التي تعاني منها الأمة تفتقد قيمتها؛ وإن المؤسسات المعنية ما لم تحقق النقلة النوعية والتغيير نحو الأفضل وتمنح مفاتيح لحسن التعامل مع القرآن وقيم الوحي يصبح الكثير منها هياكل وأشياء لا معنى لها.

لذلك نعتقد أنه لا بد من تقويم هذه الوسائل، والحكم على جودتها وصلاحيتها بمدى ما تحقق من إنتاج، ذلك أن التغير المتسارع في حركة الحياة، [ ص: 19 ] الذي يستدعي التغيير المتسارع أيضا في مشكلاتها، يتطلب المراجعة وإعادة النظر المستمرة بالوسائل والأدوات، التي نستخدمها، حتى ولو أثبتت جدواها في الماضي، فهذا لا يعني قدرتها أو خلودها؛ لأنها في الأصل مواضعات بشرية جاءت ثمرة لرؤية وبيئة وظروف أتى عليها التغيير، فصلاحيتها لمرحلة لا تعني صلاحيتها لكل المراحل، فالإصرار عليها رغم عدم إنتاجها هو إساءة لها على كل حال، والنيل من قيمتها التاريخية.

فالقرآن خالد ومجرد عن حدود الزمان والمكان -كما أسلفنا- لذلك فغياب الإنتاج، وغياب إيجاد الأوعية القرآنية لحركة الأمة والحلول القرآنية لمشكلاتها والإجابة الصحيحة لأسئلتها، لا يقتصر سوؤه على إحداث الفراغ، الذي استدعى ويستدعي (الآخر) بحلوله ويقصي القرآن عن حياة الناس، وإنما يعتبر شاهد إدانة لكل الأدوات والوسائل والمناهج، التي ما تزال معتمدة، حتى ولو عجز معتمدوها عن تعدية الرؤية إلى أفق معاصر آخر.

ولعل الميزة الأهم للقرآن، على أهمية مزاياه كلها، أن بعض وجوه إعجازه تنزيل آياته على حياة الناس تحققه من خلال عزمات البشر، وأن هذا الإعجاز سما وارتقى ببيانهم وعقولهم وثقافتهم وعمرانهم وأخلاقهم وعلاقاتهم، وشكل لهم القوة والفاعلية الدافعة للارتقاء والنهوض، والمانعة من الذوبان والسقوط.

فكم من الدراسات المتنوعة، التي نشأت حول القرآن في مختلف صنوف المعرفة وفنونها، محاكاة للإعجاز، ومحاولة لإدراك أبعاده، فكانت بمثابة جداول لغوية وبلاغية وتشريعية وبرهانية وفنية وثقافية، مصبها النهائي جميعا هدف القرآن في صناعة إنسان الوحي، وتقديمه أنموذجا بشريا قرآنيا معطاء. [ ص: 20 ]

وبعد:

فهذا الكتاب، الذي يتوافق إصداره مع شهر رمضان المبارك، الذي وصفه الله تعالى بأنه وعاء القرآن ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ... ) (البقرة:185)، ذلك أن هذا الشهر الكريم، الذي نزل فيه القرآن، في تاريخ الأمة وحياتها، يكاد يكون وعاء لكل إنجازاتها الحضارية وعطائها الإنساني، ويشكل المحطات الكبرى في انطلاقتها، لكن أعظم ما يمثل شهر رمضان للمسلم ويمتاز به هو بدء نزول القرآن، أعظم ما تمتلك الأمة المسلمة في مراحل حياتها كلها.

صحيح أن هذا الكتاب تمحور حول إبراز معالم وتميز الفن القصصي في القرآن، حيث إن القصة القرآنية هي إحدى وسائل القرآن وأساليبه في خطاب الإنسان، بكل ما تمتلك القصة من وسائل وأدوات التأثير الفنية، والاستغراق في تتبع الأبعاد الفنية، والقيام بالمقارنات والمقاربات، التي اجتهدت الباحثة في إبرازها، إلا أن هذا الجهد الملفت لا يجوز أن ينسينا أو يغيب عنا الهدف الأساس من القصة وعبرها وهو صناعة إنسان الوحي (العرفان)، وإنسان العقل (البرهان)، وإنسان البلاغة (البيان)، وأن القرآن يأخذ بأيدي الناس للتي هي أقوم، ويلحق الرحمة بهم.

وتأتي أهمية القصص القرآني، الذي شغل مساحات تعبيرية وفنية كبيرة ومؤثرة في القرآن، في أنها تمثل رحلة البشرية وما لحقها من علل، وتاريخ النبوة وكيفية تعاطيها مع الحياة، في كل الظروف والأحوال، وتقدم نماذج للاقتداء في المجالات الحياتية المختلفة، وتمنح دليل العمل لكيفية التعاطي مع الصراع الأزلي [ ص: 21 ] بين الخير والشر، والعدل والظلم، والحرية والاستبداد والاستعباد، والألوهية والتأله، والتوحيد والشرك، والله والطاغوت، والإيمان والكفر، والمستضعفين والكبراء، وتكشف عن طباع النفوس وخصائص الشعوب.

فالقصص موطن عبرة، ودليل عمل، في الوقت نفسه، انتهت جميعها لتسجل ضمن السجل القرآني بحيث تشكل رصيد التجربة النبوية التاريخية لأمة الرسالة الخاتمة؛ لتبصر البينات، التي أرسل بها الأنبياء وأنواع الإشكالات والاستجابات، التي واجهتها النبوة.

والأهم من ذلك كله التحقق بالعبرة، والإفادة من التجربة، وبذلك نضيف أعمارا إلى عمرنا، وعقولا إلى عقلنا، وتجارب إلى حياتنا، ونختزل رحلة الضياع والضلال المحتملة لكل أمة: ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) (هود:120)، وتثبيت الفؤاد إنما يكون بالاعتبار بالتجارب والإفادة من خلاصة التجربة، والصبر على التحدي، والقناعة بأن المعول عليه هو العواقب البعيدة وليست النتائج القريبة وجولات الغلبة السريعة.

والعبرة في الحقيقة والواقع هي امتلاك الأهلية والخبرة والإمكانية لكيفية العبور الآمن لصناعة المستقبل، الذي يأخذ بالاعتبار ثغرات وإصابات الماضي فيتجنبها، فالعاقل الذي يعتبر بغيره، والأحمق الذي يكون عبرة لغيره، ويبقى التاريخ هو المختبر الحقيقي لمسالك الأمم، ولاكتشاف السنن الاجتماعية الفاعلة في الحياة والأحياء، ولبصارة الطريق، والاطمئنان إلى سلامة الاختيار.

ولله عاقبة الأمور. [ ص: 22 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية