الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 259 ] باب الحجر للفساد ( قال أبو حنيفة رحمه الله : لا يحجر على الحر البالغ العاقل السفيه ، وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا مفسدا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة . وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي رحمه الله : يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله ) [ ص: 260 ] لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي بل أولى ، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه حقيقته ولهذا منع عنه المال ، ثم هو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده . ولأبي حنيفة رحمه الله أنه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد [ ص: 261 ] وهذا لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى ، حتى لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس جاز فيما يروى عنه ، إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى ، ولا يصح القياس على منع المال لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة ، ولا على الصبي لأنه عاجز عن النظر لنفسه ، وهذا قادر عليه نظر له الشرع مرة بإعطاء آلة القدرة والجري على خلافه لسوء اختياره ، ومنع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والصدقات وذلك يقف على اليد .

[ ص: 259 ]

التالي السابق


[ ص: 259 ] ( باب الحجر للفساد ) أخر هذا الباب لأن أسباب الحجر فيما تقدم عليه سماوية . وسبب الحجر هاهنا مكتسب ، والسماوي في التأثير أقوى فكان بالتقديم أولى ، ولأن الحجر في الأول متفق عليه ، وفي الثاني مختلف فيه ، والمتفق عليه أحرى بالتقديم .

قال في العناية : والمراد بالفساد هاهنا هو السفه ، وهو خفة تعتري الإنسان فتحمله على العمل بخلاف موجب الشرع والعقل مع قيام العقل ، وقد غلب في عرف الفقهاء على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع انتهى . أقول : في تفسير كل من معنى السفه على الوجه المذكور شيء . أما في الأول فهو أن العمل بخلاف موجب العقل مع قيام العقل مشكل ، إذ الظاهر أن موجب الشيء لا يتخلف عنه ، وعن هذا قال في المبسوط والكافي : السفه هو العمل بخلاف موجب الشرع واتباع الهوى وترك ما يدل عليه الحجا .

وأما في الثاني فهو أنه إن كان معنى السفه في عرف الفقهاء تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع فكيف القول من أبي حنيفة رحمه الله بعدم الحجر على السفيه ، إذ لا مساغ لعدم المنع عما هو خلاف مقتضى الشرع عند أحد الفقهاء .

ويمكن الجواب عن الأول بأن المراد بخلاف موجب العقل خلاف موجب حكم العقل لا خلاف موجب نفس العقل ، فاللازم عدم التخلف عن حكم العقل لا عن نفسه ولا محذور فيه لإمكان العمل بخلاف ما أوجبه حكم العقل كما هو حال النفوس الخبيثة . وعن الثاني بأن ما هو على خلاف مقتضى الشرع يجب أن ينهى عنه مرتكبه باللسان على الاتفاق ، ومنه عمل السفيه بالسفه . وأما الحجر عنه بمعنى إبطال حكم التصرف بالكلية وإن كان ذلك التصرف في نفس مال التصرف فهو أمر آخر وراء ذلك لم يقل به أبو حنيفة بناء على استدعائه ضررا أشد من ضرر إتلاف المال كما سيأتي بيانه في الكتاب .

وقال في النهاية : ثم اعلم أن مسائل هذا الباب كلها مبنية على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، لا على قول أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يرى الحجر للفساد والسفه أصلا انتهى . أقول : ليس هذا الكلام بسديد ، فإن أكثر مسائل هذا الباب مما اتفق عليه أبو حنيفة وصاحباه كقوله وإن أعتق عبدا نفذ عتقه ، وقوله ولو دبر عبده جاز ، وقوله ولو جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا والجارية أم ولده ، وقوله وإن تزوج امرأة جاز نكاحها وإن سمى لها مهرا جاز منه مقدار مهر مثلها .

[ ص: 260 ] وقوله ولو طلقها قبل الدخول وجب لها النصف ، وقوله وتخرج الزكاة من مال السفيه وينفق على أولاده وزوجته ومن تجب نفقته من ذوي أرحامه ، وقوله فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها ، ولو أراد عمرة واحدة لم يمنع منها ، وقوله فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك في ثلث ماله ، وقوله ولا يحجر الفاسق عندنا إذا كان مصلحا لماله .

وإنما المسائل الخلافية بين أبي حنيفة وصاحبيه من مسائل هذا الباب ثلاث : ثنتان منها مذكورتان في أول الباب في الهداية والبداية : إحداهما مسألة أنه لا يحجر السفيه عند أبي حنيفة ويحجر عندهما . وأخراهما مسألة أن الغلام البالغ غير رشيد إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله عند أبي حنيفة وإن لم يؤنس منه الرشد ، وعندهما لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس منه رشده .

وواحدة منهما مذكورة في آخر الباب في الهداية وحدها وهي مسألة أن يحجر القاضي بسبب الغفلة عندهما ، ومع ذلك جعل قول أبي حنيفة في المسألتين الأوليين أصلا في الذكر وقولهما تبعا له فلم يبق من مسائل هذا الباب ما هي مبنية على قولهما لا على قوله إلا المسألة الأخيرة المذكورة في الهداية وحدها ، فكيف يصح القول بأن مسائل هذا الباب كلها مبنية على قول أبي يوسف ومحمد لا على قول أبي حنيفة .

ثم أقول : لو قال بدل ذلك الكلام : ثم اعلم أن تلقيب هذا الباب باب الحجر للفساد مبني على قول أبي يوسف ومحمد لا على قول أبي حنيفة فإنه لا يرى الحجر للفساد والسفه أصلا لكان له وجه صحيح كما لا يخفى ( قوله لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي ) قال صاحب العناية : واستدل المصنف بقوله لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل ، وكل من هو كذلك يحجر عليه نظرا له كالصبي فهذا يحجر عليه ا هـ .

أقول : تقريره غير مطابق للمشروح ، إذ لا يخفى أن حاصل كلام المصنف هنا قياس السفيه على الصبي قياسا تقريبا في وجوب الحجر ، ويرشد إليه قطعا قوله فيما سيأتي من قبل أبي حنيفة ، ولا يصح القياس على منع المال ولا على الصبي ، وقد قرره الشارح المذكور على القياس المنطقي حيث قدر الكبرى الكلية وجعل قوله فيحجر عليه نتيجة القياس كما ترى .

ثم إن صاحبي النهاية والعناية قالا : هذا الدليل الذي ذكره المصنف إنما يصح على قول أبي يوسف ومحمد لا على قول الشافعي ، لأن حجر السفيه عنده بطريق الزجر والعقوبة عليه لا بطريق النظر له ، وقالا : وفائدة هذا الخلاف بينهم تظهر فيما إذا كان السفيه مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق . فعند الشافعي يحجر عليه زجرا وعقوبة ، وعندهما لا يحجر عليه ا هـ .

أقول : فيه نظر لأن من كان مصلحا في ماله لا يسمى سفيها في عرف الفقهاء كما أفصح عنه صاحب العناية فيما مر حيث قال : وقد غلب في عرف الفقهاء على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع ، وأما كون المصلح في ماله إذا كان مفسدا في دينه يسمى بالسفيه على معناه الأصلي فلا يجدي نفعا هاهنا ، إذ نحن بصدد بيان حكم السفيه في عرف الفقهاء بأنه لا يحجر عليه عند أبي حنيفة ويحجر عليه عند أبي يوسف ومحمد والشافعي ، ولو كان الفاسق داخلا في السفيه في عرفهم لما صح بيان الحكم بالوجه المذكور ، فإن الفاسق لا يحجر عليه عند أحد من أئمتنا كما سيأتي في الكتاب ( قوله ولأبي حنيفة أنه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد ) قيل : يشكل هذا بالعبد ، فإنه مخاطب عاقل أيضا ومع ذلك يحجر عليه .

وأجيب بوجهين : [ ص: 261 ] أحدهما أنه ذكر المخاطب مطلقا والمطلق ينصرف إلى الكامل ، والعبد ليس بمخاطب كامل لسقوط الخطابات المالية عنه كالزكاة وصدقة الفطر والأضحية والكفارات المالية ، وسقوط بعض الخطابات الغير المالية كالحج وصلاة الجمعة والعيدين والشهادات وشطر الحدود وغيرهما .

والثاني : أن المراد بالمخاطب في قوله إنه مخاطب هو المخاطب بالتصرفات المالية بدلالة محل الكلام ، لأن الكلام في الحجر عن التصرفات المالية كالبيع والشراء والهبات والصدقات فحينئذ لا يتناول قوله إنه مخاطب العبد لأنه لا مال له فلا تصرف له في المال ولا خطاب فيه ، هذا زبدة ما في النهاية وغيرها .

أقول : بقي في كلام المصنف شيء ، وهو أن قوله عاقل بعد قوله إنه مخاطب مستدرك لأن المخاطب لا يكون إلا عاقلا ، فإن ما ليس بعاقل كالصبي والمجنون [ ص: 262 ] ليس بمخاطب لا محالة




الخدمات العلمية