الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1869 ] ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا

                                                          * * *

                                                          في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه، ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه:

                                                          ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به إن الله أوعد المفسدين بالشر، ووعد الصالحين بالثواب العظيم والنعيم المقيم، ولكن الأماني تتحكم في النفوس، فتتمنى ما لم تعمل له، وتسير وراء ما تتمنى من غير أن يربطوا بين العمل والجزاء، والسبب والمسبب، فنبه سبحانه إلى ذلك. [ ص: 1870 ] الأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان، ويرغب فيه، ويحبه، ولو لم يتخذ له أسبابه، والضمير في قوله تعالى; ليس بأمانيكم يعود على ما وعد به من عذاب وثواب، والمعنى ليس ما ينزل بكم جزاء لما تعملون بالأماني تتمنونها، ولكن لمن الخطاب في قوله: ليس بأمانيكم أهو للمشركين أم لعامة المسلمين؟ في ذلك توجيهان: أحدهما: أن الخطاب للمسلمين، والمعنى على هذا: ليس الأمر بما تتمنون أنتم معشر المسلمين وأهل الكتاب، إنما بما تعملون، فمن يعمل عملا لسوء نفسه أو غيره يجز به في الدنيا والآخرة، ولا يجد له غير الله نصيرا ينصره، أو وليا يعاضده أو يواليه في شره بل الجميع يبرأ منه، ويزكي ذلك الوجه ما يروى عن قتادة ، لقد قال: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فنزلت الآية ليس بأمانيكم .

                                                          وقد يكون في هذا الوجه نظر; لأنه يضع أهل الكتاب في موضع المؤمنين في الاحتجاج، مع أن كلام أهل الإيمان هو الحق الذي لا شك فيه، وفيه الإيمان بالكتب السابقة، مع الكتاب الكريم.

                                                          والوجه الثاني أن يكون الخطاب لمشركي العرب. ويكون في الكلام التفات، فبعد أنه كان يتكلم عنهم بضمير الغائب، التفت وخاطبهم بضمير الخطاب تنبيها لهم وبيانا للحق، وبيان أن العمل هو الذي يقدم صاحبه ويؤخره، ويزكي هذا الوجه ما روي عن مجاهد شيخ مفسري التابعين فقد قال: "قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقال اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم"، فكانت هذه الآية ليس بأمانيكم ردا على هذه الأوهام. [ ص: 1871 ] وقد رجح ذلك الوجه ابن جرير الطبري ، وقال في ترجيحه: "وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد ; لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله تعالى: ليس بأمانيكم وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله تعالى: ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام

                                                          وقوله تعالى: ليس بأمانيكم فإلحاق معنى قوله تعالى: ليس بأمانيكم بما جرى ذكره قبل، أحق وأولى من ادعاء تأويل لا دلالة عليه من التنزيل ولا أثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا إجماع من أهل التأويل. وإنما نختار ما اختاره ابن جرير ، لما ساقه من دليل.

                                                          وقوله تعالى: من يعمل سوءا يجز به ما هو الجزاء; أهو الدنيوي أم الأخروي؟. قال بعض العلماء إنه الجزاء الدنيوي، ويستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام -فيما رواه عطاء - لأبي بكر : يا أبا بكر ، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك، وكان هذا تفسيرا للنص. وقال آخرون: إن المراد الجزاء الأخروي، وهو المناسب للنص، وللآيات السابقة، والجزاء القرآني دائما جزاء أخروي، والحق هو القول الأخير، أن الجزاء هو الأخروي، والدنيوي إن كانت حكمة الله تعالى في جزاء دنيوي كالتشريد والذلة، والهزيمة في الحروب.

                                                          وقوله تعالى: ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا أي أن الشيطان الذي كان يوسوس لهم يختفي سلطانه ولا يكون له ولاء لهم، لا يوادهم ولا يحبهم، ولا يناصرهم، كما قال تعالى عنه وعنهم يوم القيامة: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم [إبراهيم]. [ ص: 1872 ]

                                                          هذا جزاء أهل الشر، أما جزاء أهل الخير فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية