الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 271 ] باب الحجر بسبب الدين ( قال أبو حنيفة : لا أحجر في الدين ، وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه ) لأن في الحجر إهدار أهليته فلا يجوز لدفع ضرر خاص [ ص: 272 ] ( فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم ) لأنه نوع حجر ، ولأنه تجارة لا عن تراض فيكون باطلا بالنص [ ص: 273 - 274 ] ( ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه ) إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه ( وقالا : إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه [ ص: 275 ] ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء ) لأن الحجر على السفيه إنما جوزاه نظرا له ، وفي هذا الحجر نظر للغرماء لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت حقهم ، ومعنى قولهما ومنعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل ، أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه . قال ( وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما ) لأن البيع مستحق عليه لإيفاء دينه حتى يحبس لأجله ، فإذا امتنع ناب القاضي منابه كما في الجب والعنة . قلنا : التلجئة موهومة ، والمستحق قضاء الدين ، والبيع ليس بطريق متعين لذلك ، بخلاف الجب والعنة والحبس لقضاء الدين بما يختاره من الطريق ، كيف ولو صح البيع كان الحبس إضرارا بهما بتأخير حق الدائن وتعذيب المديون فلا يكون مشروعا . قال ( وإن كان دينه دراهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره ) وهذا بالإجماع ، لأن للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه ( وإن كان دينه دراهم وله دنانير أو على ضد ذلك باعها القاضي في دينه ) [ ص: 276 ] وهذا عند أبي حنيفة استحسان . والقياس أن لا يبيعه كما في العروض ، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا . وجه الاستحسان أنهما متحدان في الثمنية والمالية مختلفان في الصورة ، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف ، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين ، بخلاف العروض لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها ، أما النقوذ فوسائل فافترقا

التالي السابق


( باب الحجر بسبب الدين ) تلقيب هذا الباب بالحجر بسبب الدين وما قبله بالحجر للفساد إما على قولهما فقط كما قالوا في فصل تكبيرات التشريق من كتاب الصلاة وفي باب مقاسمة الجد من علم الفرائض .

لأن أبا حنيفة لا يرى شيئا منها ، وإما على قولهم جميعا بناء على تعلق نظر كلهم بذلك إثباتا منهما ونفيا منه . ثم إن الحجر بسبب الدين لما كان مشروطا بطلب الغرماء كان فيه وصف زائد ، فصار بالنظر إلى ما قبله بمنزلة المركب من المفرد فلا جرم آثر تأخيره عنه ( قوله قال أبو حنيفة رحمه الله : لا أحجر في الدين ، وإذا وجب ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه ، لأن في الحجر عليه إهدار أهليته فلا يجوز لدفع ضرر خاص ) قال صاحب العناية في هذا المقام : وأبو حنيفة لا يجوزه لأن فيه إهدار أهليته ، وذلك ضرر فوق ضرر المال فلا يترك الأعلى للأدنى انتهى .

أقول : لا يذهب عليك أن قوله فلا يترك الأعلى للأدنى لا يناسب ما قبله من المقدمتين بل ينافيه في الظاهر ، فكان حق العبارة أن يقال : فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى كما قاله المصنف في أوائل باب الحجر للفساد ، وأشار إليه هاهنا بقوله فلا يجوز لدفع ضرر خاص ، وعن هذا قال بعض الفضلاء : ولعل العبارة فلا يرتكب ، وقوله فلا يترك [ ص: 272 ] سهو من الناسخ انتهى .

ثم أقول : يمكن توجيه ما عليه النسخ الآن بوجوه : الأول أن يحمل المراد بالأعلى في قوله فلا يترك الأعلى للأدنى على أهلية المديون لا إهدار أهليته ، وبالأدنى على المال نفسه لا على ضرره ، يرشد إليه أنه قال للأدنى ولم يقل لدفع الأدنى كما قاله المصنف ، ولا شك أن كون إهدار أهليته ضررا فوق ضرر المال إنما هو بسبب كون أهليته أعلى : أي أشرف ، وكون المال أدنى : أي أخس ، فإن ضرر فوت الأشرف فوق ضرر فوت الأخس لا محالة . فإن قلت : المطابق لقوله في السؤال الآتي وإنما يكون الأول أعلى أن لو كانا في شخص واحد أن يكون المراد بالأعلى إهدار الأهلية وبالأدنى ضررا يقابله .

قلت : تطبيق ما في الموضعين في حيز المراد غير لازم ، فإن علو نفس الأهلية شرفا وعلو إهدارها ضررا متلازمان ، وكذا دناءة نفس المال ودناءة ضرره ، فجاز أن يراد بالأعلى والأدنى في موضع نفس الأهلية ونفس المال وفي موضع آخر ضررهما ، ويحصل بهذا القدر ما هو المقصود في كل من الموضعين كما لا يخفى على المتأمل .

والثاني أن يحمل الترك المنفي في قوله فلا يترك على معنى الإبقاء فيكون معنى قوله فلا يترك الأعلى للأدنى فلا يبقى الضرر الأعلى لأجل الضرر الأدنى : أي لأجل دفعه ، ومجيء الترك بمعنى الإبقاء واقع في التنزيل كقوله جل اسمه { وتركنا عليه في الآخرين } أي أبقينا ، نص عليه في القاموس وشائع في كلام المصنفين حيث يقولون : ترك على حاله ، ووقع في كلام المصنف أيضا في هذا الباب حيث قال : ويترك عليه دست من ثياب بدنه ويباع الباقي . فإن قلت : معنى الإبقاء لا يناسب هذا المحل ، لأن المتبادر من نفي إبقاء إهدار الأهلية تحقق إهدارها أولا ، إذ البقاء فرع التحقق .

ومذهب أبي حنيفة أن لا يجوز إهدار أهلية الإنسان رأسا لأن فيه إلحاقه بالبهائم . قلت : لا نسلم تبادر ذلك في صورة النفي ، وكون البقاء فرع التحقق إنما هو في الثبوت ، ولئن سلم ذلك فيمكن أن يلتزم الحمل على خلاف المتبادر من ظاهر اللفظ بقرينة المقام . والثالث أن تحمل كلمة لا في قوله فلا يترك على الزائدة كما في قوله تعالى { لئلا يعلم أهل الكتاب } وفي قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد } وغيرهما من الأمثلة .

فإن قلت : قد عينت مواقع زيادة لا في أكثر كتب النحو : أحدهما مع الواو بعد النفي . وثانيهما بعد " أن " المصدرية . وثالثها قبل القسم على قلة . ورابعها مع المضاف على الشذوذ ، وما نحن فيه ليس منها في شيء . قلت : ذكر ابن هشام في مغني اللبيب وقوع لا الزائدة في مواضع من التنزيل ، وعد منها قوله تعالى { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } فيمن فتح الهمزة .

وقال : فقال قوم منهم الخليل والفارسي لا زائدة ، وإلا لكان عذرا للكفار ، وعد منها أيضا قوله تعالى { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } وقال فقيل لا زائدة ، والمعنى ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم لكفرهم أنهم يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة ا هـ . ولا يخفى أن هذين الموضعين ليسا من المواقع الأربعة المعينة وموافقين لما نحن فيه ، فكفى بهما حجة لهذا الوجه من التوجيه .

فإن قلت : لا ينتظم حينئذ آخر الكلام وهو قوله للأدنى ، إذ لا معنى لأن يقال : يترك الضرر الأعلى للضرر الأدنى ، فإن ترك الضرر الأعلى ليس للضرر الأدنى بل لكونه أشد وأقبح منه . ثم إن هذا إذا لم يكن معنى قوله للأدنى لدفع الأدنى ، وأما إذا كان معناه ذاك كما هو الظاهر ففساد المعنى أظهر ، إذ يصير المعنى إذ ذاك فيترك الضرر الأعلى لدفع الضرر الأدنى فيلزم أن لا يتحمل شيء من الضررين ، وليس كذلك قطعا .

قلت : يمكن نظم ذلك بأن يحمل اللام في قوله للأدنى على معنى عند ، فيكون معنى الكلام فيترك الضرر الأعلى عند تيسر الضرر الأدنى لوجوب اختيار أهون الشرين ، وهذا معنى مستقيم كما ترى ، ومجيء اللام بمعنى عند قد ذكره ابن هشام في مغني اللبيب ومثله بقولهم كتبته لخمس خلون ، وقال : وجعل منه ابن جني قراءة قوله تعالى [ ص: 273 ] { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } بكسر اللام وتخفيف الميم ا هـ .

والإنصاف أن هذا الوجه أبعد الوجوه التي ذكرنا لتوجيه كلام صاحب العناية هاهنا لكن مقصودنا بيان جملة ما لوحظ من الاحتمالات في توجيه كلامه بحسب الإمكان على القواعد العقلية والنقلية . ثم قال صاحب العناية : فإن قيل : إهدار الأهلية ضرر يلحق المديون وترك الحجر ضرر يلحق الدائن ، وإنما يكون الأول أعلى لو كان في شخص واحد .

فالجواب أن ضرر الدائن يندفع بالحبس لا محالة ، والحبس ضرر يلحق المديون مجازاة شرعا ، ولو لم يكن أعلى ما اندفع به ضرر الدائن وإهدار الأهلية أعلى من الحبس فيكون أعلى من ضرر الدائن ا هـ كلامه . أقول : حاصل السؤال منع كون إهدار أهلية المديون أعلى ضررا من ضرر الدائن مستندا بكونهما في شخصين دون شخص واحد . وحاصل الجواب إثبات المقدمة الممنوعة بطريق قياس المساواة بحيث يظهر منه بطلان السند أيضا . تقريره أن إهدار الأهلية أعلى ضررا من الحبس ، والحبس أعلى ضررا من ضرر الدائن ينتج أن إهدار الأهلية أعلى ضررا من ضرر الدائن بملاحظة مقدمة مقررة ، وهي أن الأعلى من الأعلى من الشيء أعلى من ذلك الشيء ، ولا شك أن هذا القياس يقتضي كون إهدار الأهلية أعلى ضررا من ضرر الدائن وإن كان في شخصين فسقط المنع وبطل السند ، ولكن لما كان في المقدمة الثانية من القياس المزبور وهي قولنا والحبس أعلى ضررا من ضرر الدائن نوع خفاء بينها الشارح المذكور أولا بما حاصله أن ضرر الدائن يندفع بالحبس ، ولو لم يكن الحبس أعلى ضررا من ضرر الدائن لما اندفع هذا بذاك .

ثم ذكر المقدمة الأولى والنتيجة لظهورهما بلا بيان . ثم أقول : في الجواب بحث . أما أولا فلأن قوله إن ضرر الدائن يندفع بالحبس لا محالة في حيز المنع لجواز أن يختار المديون الحبس أبدا ولا يوفي حق الدائن فلا يندفع حينئذ ضرر الدائن .

وأما ثانيا فلأن الحبس لو كان أعلى ضررا من ضرر الدائن لما جاز الحبس عند أبي حنيفة رحمه الله بناء على مقتضى قوله لا يتحمل الضرر الأعلى لدفع الضرر الأدنى كما هو الأساس في إثبات مذهبه في هذه المسألة ، مع أن الحبس جائز بالإجماع ومتعين عند أبي حنيفة . ويمكن أن يجاب عن الأول بأن اختيار المديون الحبس الأبدي مع قدرته على أداء الدين بعيد جدا غير واقع في العادة إلا بغاية الندرة ، ومبنى الأحكام الشرعية على الغالب الأكثر .

وعن الثاني بأن الحبس ليس لمجرد دفع ضرر المال عن الدائن ، بل هو مع ذلك جزاء لظلم المديون الدائن بالمماطلة ، وقد صرح المصنف في فصل الحبس من قضاء القضاء بكون الحبس من جزاء المماطلة حيث قال : وإذا ثبت الحق عند القاضي وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه وأمره بدفع ما عليه ، لأن الحبس جزاء المماطلة فلا بد من ظهورها وأشار إليه الشارح المذكور في أثناء الجواب المزبور بقوله : والحبس ضرر يلحق المديون مجازاة شرعا ، ولعل قصده الإشارة إليه كان باعثا على ذكره هذه المقدمة أثناء الجواب ، وإلا فلا مدخل له أصلا في إثبات المقدمة الممنوعة في السؤال كما ظهر من تقريرنا السابق ، فإذا كان كذلك فاختيار الحبس للمجازاة الشرعية مع اندفاع ضرر المال عن الدائن به أيضا لا لمجرد دفع هذا الضرر الذي هو أدنى من ضرر الحبس حتى ينتقض به قول أبي حنيفة لا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى .

فإن قلت : هب أن الحبس ليس لمجرد دفع ضرر المال عن الدائن بل له ولجزاء ظلم المماطلة معا لكن يندفع به ظلم المماطلة أيضا كما يفصح عنه قول المصنف فيما بعد ، ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه ا هـ .

فبقياس المقدمة المذكورة في الجواب القائلة : ولو لم يكن أعلى ما اندفع به ضرر الدائن ، يقال : ولو لم يكن الحبس أعلى من ظلم المماطلة لما اندفع به ذلك الظلم ، فيلزم أن يكون الحبس أعلى من ظلم المماطلة أيضا فيعود انتقاض قوله لا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى بالحبس .

قلت : المندفع بالحبس ظلمه الآتي وهو المراد بقول المصنف فيما بعد دفعا لظلمه لا ظلمه الماضي ، إذ لا مجال لدفع ما تحقق فيما مضى من المماطلة لأنه عرض لا يبقى ، والذي جعل الحبس جزاء له إنما هو ظلمه الماضي واختيار الحبس لمجازاة ظلمه الماضي مع دفع ظلمه الآتي ودفع ضرر المال عن الدائن أيضا فلا يتمشى النقض بالنظر إلى مجازاة ظلمه الماضي كما لا يخفى . ولئن سلم [ ص: 274 ] كون الحبس أعلى من ظلمه مطلقا ومن ضرر الدائن فنقول : إن قوله لا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى قول على موجب القياس ، والحبس قد ثبت بالنص من كتاب وسنة على ما صرحوا به في فصله وفصلوه فيترك به القياس ، بخلاف الحجر بسبب الدين فإنه لم يثبت بنص فيجري فيه القياس ويسقط النقض بالحبس قطعا .

لا يقال : الحجر بسبب الدين أيضا ثبت بالنص وهو ما روي { أن معاذا ركبته ديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص } كما ذكر في البدائع والتبيين وبعض شروح هذا الكتاب دليلا على قول الإمامين في هذه المسألة . لأنا نقول : أجابوا عنه في تلك الكتب أيضا عن قيل أبي حنيفة بأن بيع النبي صلى الله عليه وسلم مال معاذ كان بإذنه ، استعان بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وقالوا : والدليل عليه أن بيع ماله لا يجوز حتى يأمره ويأبى ، ولا يظن بمعاذ رضي الله عنه أن يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال في البدائع : مع ما روي { أنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع ماله لينال بركته فيصير دينه مقضيا ببركته } ا هـ .

فظهر أنه لا نص يدل على جواز الحجر بسبب الدين ، فتعين أن المدار فيه هو القياس . وتحقيق هذا المقام على هذا المنوال من الأسرار التي وفقت لها بتوفيق الله تعالى . ثم إن من العجائب هاهنا أني قد ابتليت في زمان من الأزمان بأن أمتحن مع بعض من عد من الأهالي والأعيان لأجل بعض من المدارس في يوم واحد من كتب ثلاثة : الهداية ، وشرح المواقف ، وشرح المفتاح ، فاتفق أن يقع البحث من هذا الكتاب من أول هذا الباب ، فكان استخراج بعض من أصحاب الامتحان في هذا المقام على أن تكون كلمة لو في قول صاحب العناية في الجواب : ولو لم يكن أعلى ما اندفع به ضرر الدائن وصلية ، فجعل كلمة أعلى مضافة إلى كلمة ما ، وجعل كلمة ما موصولة ، فبنى على هذا الاستخراج خرافات من الأوهام ، فلما عرض ذلك على الصدرين اللذين كانا حكمين في ذلك الامتحان بينا بطلانه وشنعا عليه جدا ، ومع ذلك لم يرجع عن رأيه الباطل بل أصر عليه ، وراجع بعض الوزراء واستعان بشهادة بعض من جهلة المدرسين بالمدارس العالية فوقع النزاع وشاع الأمر حتى كاد تقع فتنة عظيمة ، ولله در من قال : رحم الله امرأ عرف قدره فلم يتعد طوره ( قوله ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه ) أقول : يرد على ظاهر عبارة المصنف هاهنا ما أورده صاحب العناية على نظيرها في أوائل باب الحجر للفساد بأن قال : تسامح عبارته في الجمع بين الأبد وحتى ظاهر .

ويمكن توجيه عبارته هاهنا أيضا بما وجهنا به عبارته هناك من حمل الأبد على الزمان الطويل الممتد .

ويمكن هاهنا توجيه آخر وهو أن تكون كلمة حتى هاهنا بمعنى كي دون إلى ، فيصير معنى الكلام : ولكن يحبسه أبدا ليكون سببا لبيعه ، فلا مسامحة في الجمع أصلا إذ المسامحة إنما هي في الجمع بين الأبد وحتى بمعنى الانتهاء دون السببية كما لا يخفى ، نعم لا يقصد بالأبد معنى الدوام ألبتة ، ولكنه أمر آخر وراء المسامحة في الجمع تأمل تقف ( قوله وقالا : إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ) أقول : لقائل أن يقول : لا يجب أن يكون المحجور عليه مفلسا ، بل يجوز الحجر على الغني أيضا عندهما نظرا لغرمائه ، بل الحجر بسبب الدين إنما يفيد فائدته في حق الغني دون المفلس كما لا يخفى على الفطن ، فذكر المفلس في وضع المسألة يخل بحق .

لا يقال : قد ذكر في النهاية وغيرها نقلا عن الذخيرة أن من مشايخنا من قال : مسألة الحجر بسبب الدين بناء على مسألة القضاء بالإفلاس حتى لو حجر عليه ابتداء من غير أن يقضى عليه بالإفلاس لا يصح حجره بلا خلاف ، والإفلاس عندهما يتحقق في حالة الحياة فيمكن للقاضي القضاء بالإفلاس وبالحجر بناء عليه .

وعند أبي حنيفة رحمه الله : الإفلاس في حال الحياة لا يتحقق ، فلا يمكنه القضاء بالإفلاس أولا وبالحجر بناء عليه ، ومنهم من جعل هذه المسألة مسألة مبتدأة ، فعلى هذا القول المانع من الحجر عند أبي حنيفة كون الحجر متضمنا إلحاق الضرر بالمحجور ولا تعلق له بالقضاء [ ص: 275 ] بالإفلاس ا هـ .

فيجوز أن يكون ذكر المفلس في وضع المسألة في الكتاب بناء على اختيار قول من قال مسألة الحجر بسبب الدين بناء على مسألة القضاء بالإفلاس .

لأنا نقول : ما ذكر في الكتاب في تضاعيف بيان المذهبين في هذه المسألة وتقرير دليلهما كقوله في مذهب أبي حنيفة : وإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم لأنه نوع حجر ، وقوله في مذهبهما لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت حقهم ، وقوله فيه أيضا : وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص يدل قطعا على أن ليس مدار ما في الكتاب على اختيار قول من قال مسألة الحجر بناء على مسألة القضاء بالإفلاس ، إذ القضاء بالإفلاس لا يتصور فيما إذا ظهر ماله ، وتلك الأقوال المذكورة في الكتاب صريحة في ظهور ماله ، بل مدار ما في الكتاب على اختيار قول من جعل هذه المسألة مسألة مبتدأة غير مبنية على مسألة القضاء بالإفلاس كما لا يخفى .

فالجواب أن يقال : ليس المراد بالمفلس في قوله إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه معناه الحقيقي ، بل المراد به أما من يدعي الإفلاس فيتناول الغني أيضا ، إذ الظاهر أن المديون الذي لا يؤدي دينه يدعي الإفلاس وإن كان غنيا في نفسه ، وأما من حاله حال المفلس ، ولا شك أن الغني الذي لا يؤدي دينه حاله في عدم أداء الدين حال المفلس فلا يلزم تخصيص المسألة بما هو مفلس حقيقة ( قوله يمنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء ) أقول : وجه ذكر التصرف المطلق بين البيع والإقرار مع أنهما من جنس التصرف أيضا غير واضح ، والعهدة في ذلك على القدوري ، لأن هذه العبارة عبارة القدوري والمصنف معبر عنه ، ولكنه لو أصلحها [ ص: 276 ] بتصرف لكان أصلح كما لا يخفى ( قوله وهذا عند أبي حنيفة استحسانا ) قال كثير من الشراح : إنما خص أبا حنيفة بالذكر وإن كان هذا بالإجماع لأن الشبهة ترد على قوله لأنه كان لا يجوز بيع القاضي على المديون في العروض ، وكان ينبغي أن لا يجوز في النقدين أيضا لأنه ممنوع من البيع وهو بيع الصرف ا هـ .

أقول : ما ذكروه إنما يتم أن لو كان عبارة المصنف ، وهذا عند أبي حنيفة بدون ذكر قوله استحسانا ، وأما عند ذكر قيد الاستحسان كما هو الواقع في كلام المصنف فقد كان ذلك مخصوصا بأبي حنيفة رحمه الله في الحقيقة ، فإن كون جواز بيع النقدين بطريق الاستحسان دون القياس إنما هو قول أبي حنيفة فقط ، وأما عندهما فيجوز بيع النقدين بطريق القياس فلا احتياج إلى الاعتذار تدبر




الخدمات العلمية