الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم

الساحر كان عندهم في ذلك الزمن أعلى المراتب وأعظم الرجال، ولكن وصفهم موسى بذلك مع مدافعتهم له عن النبوة ذم عظيم وحط، وذلك قصدوا إن لم يمكنهم أكثر، وقولهم: يريد أن يخرجكم من أرضكم يعنون بأنه يحكم فيكم بنقل رعيتكم في بني إسرائيل فيفضي ذلك إلى خراب دياركم إذا ذهب الخدمة والعمرة، وأيضا فلا محالة أنهم خافوا أن يقاتلهم، وجالت ظنونهم في كل مجال، وقال النقاش : كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك. وقوله: فماذا تأمرون الظاهر أنه من كلام الملإ بعضهم إلى بعض. وقيل: هو من كلام فرعون لهم، وروى كردم عن نافع "تأمرون" بكسر النون، وكذلك في الشعراء. و"ما" استفهام، و"إذا" بمعنى "الذي"، فهما ابتداء وخبر، وفي "تأمرون" ضمير عائد على "الذي" تقديره: تأمرون به، ويجوز أن تجعل "ماذا" بمنزلة اسم واحد في موضع نصب [ ص: 16 ] بـ "تأمرون" ولا يضمر فيه على هذا. قال الطبري : والسحر مأخوذ من: سحر المطر الأرض إذا جادها حتى يقلب نباتها ويقلعه من أصوله، فهو يسحرها سحرا، والأرض مسحورة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وإنما سحر المطر الطين إذا أفسده حتى لا يمكن فيه عمل، والسحر: الأخذة التي تأخذ العين حتى ترى الأمر غير ما هو، وربما سحر الذهن، ومنه قول ذي الرمة :


وساحرة السراب من الموامي ... ترقص في نواشزها الأروم



أراد: أنه يخيل نفسه ماء للعيون.

ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة.

وقرأ ابن كثير : "أرجئهو" بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء، وقرأ أبو عمرو : "أرجئه" بالهمز دون واو بعدها، وقرأ نافع وحده في رواية قالون : "أرجه" بكسر الهاء، ويحتمل أن يكون المعنى أخره فسهل الهمزة، ويحتمل أن يكون من الرجا بمعنى: أطعمه ورجه، قاله المبرد ، وقرأ ورش عن نافع : "أرجهي" بياء بعد كسرة الهاء، وقرأ ابن عامر : "أرجئه" بكسر الهاء وبهمزة قبلها. قال الفارسي : وهذا غلط. وقرأ عاصم والكسائي : "أرجه" بضم الهاء دون همز، وروى أبان عن [ ص: 17 ] عاصم : "أرجه" بسكون الهاء، وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها، ومنه قول الشاعر:


أنحى علي الدهر رجلا ويدا ...     يقسم لا أصلح إلا أفسدا



فيصلح اليوم ويفسد غدا.

وقال الآخر:


لما رأى أن لا دعه ولا شبع ...     مال إلى أرطاة حقف فاضطجع



وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا، ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا: إن قتلته دخلت على الناس شبهة، ولكن اغلبه بالحجة. و"المدائن" جمع مدينة، وزنها فعيلة من مدن، أو مفعلة من دان يدين، وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز، و"حاشرين" معناه: جامعين، قال المفسرون: وهم الشرط، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : "بكل ساحر" ، وقرأ حمزة والكسائي : "بكل سحار" على بناء المبالغة، وكذلك في سورة يونس، وأجمعوا على "سحار" في سورة الشعراء، وقال قتادة : معنى [ ص: 18 ] الإرجاء الذي أشاروا إليه: السجن والحبس.

وقوله تعالى: وجاء السحرة الآية، هنا محذوفات يقتضيها ظاهر الكلام، وهي أنه بعث إلى السحرة وأمرهم بالمجيء، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: أنه بعث غلمانا فعلموا بالفرما

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم في رواية حفص : "إن لنا لأجرا" على جهة الخبر، وقرأوا في الشعراء: "آن لنا" ممدودة مفتوحة الألف غير عاصم ، فإنه لا يمدها، قال أبو علي : ويجوز أن تكون على جهة الاستفهام وحذف ألفها، وقد قيل ذلك في قوله: "أن عبدت بني إسرائيل" ومنه قول الشاعر: .


أفرح أن أرزأ الكرام ..... ...      ...........................



وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي هنا وفي الشعراء: "آئن" بألف الاستفهام قبل "إن"، وقرأت فرقة: "أئن" دون مد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي الشعراء: "أين" .

[ ص: 19 ] والأجر هنا: الأجرة، فاقترحوها إن غلبوا، فأنعم فرعون لهم بها وزادهم المنزلة والجاه، ومعناه: المقربين مني، وروي أن السحرة الذين جاءوا إلى فرعون كانوا خمسة عشر ألفا، قاله ابن إسحاق ، وقال ابن جريج : كانوا تسعمائة، وذكر النقاش أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلا، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفا، قال محمد بن المنذر: كانوا ثمانين ألفا، وقال السدي : مائتي ألف ونيفا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه الأقوال ليس لها سند يتوقف عنده، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفا، وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل مع كل رجل حبل وعصا، وقال أبو ثمامة : كانوا سبعة عشر ألفا.

وقوله تعالى: قالوا يا موسى إما أن تلقي الآية. "أن" في قوله: "إما أن" في موضع نصب، أي: إما أن تفعل الإلقاء، ويحتمل أن تكون في موضع رفع، أي: إما هو الإلقاء. وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا فعل المدل الواثق بنفسه، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحجج، لأن بديلتها تمضي بالنفس، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه، ووثق بالحق فأعطاهم التقدم، فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم.

وقوله تعالى: سحروا أعين الناس نص في أن لهم فعلا ما زائدا على ما يحدثونه من التزييف والآثار في العصا وسائر الأجسام التي يصرفون فيها صناعتهم. و"استرهبوهم" بمعنى: أرهبوهم، أي: أفزعوهم، فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس، ووصف الله تبارك وتعالى سحرهم بالعظم، ومعنى ذلك: من كثرته، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيرا موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضا، فاستهول الناس ذلك واسترهبوهم، قال الزجاج : قيل: إنهم جعلوا فيها الزئبق فكانت لا تستقر.

التالي السابق


الخدمات العلمية