الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإن مات قبل أن يسمي مهرا أو ماتت فسواء ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - أنه قضى في بروع بنت واشق ونكحت بغير مهر ، فمات زوجها فقضى لها بمهر نسائها وبالميراث فإن كان يثبت فلا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، يقال مرة عن معقل بن يسار ، ومرة عن معقل بن سنان ، ومرة عن بعض بني أشجع ، وإن لم يثبت فلا مهر ولها الميراث . وهو قول علي وزيد وابن عمر "

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول ، أو ماتت ، فإنهما يتوارثان بالإجماع ؛ لقول الله تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم [ النساء : 12 ] . وهما زوجان لصحة النكاح بينهما .

                                                                                                                                            فأما مهر مثلها : فقد اختلف قول الشافعي في استحقاقه بالموت قبل الدخول على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو مذهب أبي حنيفة - : أن لها مهر المثل .

                                                                                                                                            وهو في الصحابة قول عبد الله بن مسعود .

                                                                                                                                            وفي التابعين : قول علقمة ، والشعبي .

                                                                                                                                            وفي الفقهاء : قول ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، وابن شبرمة ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            والقول الثاني - وهو مذهب مالك - : لا مهر لها .

                                                                                                                                            وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، رضي الله عنهم .

                                                                                                                                            وفي التابعين : قول جابر بن زيد ، والزهري ، وعطاء .

                                                                                                                                            وفي الفقهاء : قول ربيعة ، والأوزاعي .

                                                                                                                                            ودليل القول الأول - وهو مذهب أبي حنيفة - : حديث بروع بنت واشق : روى قتادة عن خلاس وأبي حسان ، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن رجلا تزوج امرأة فلم يسم لها صداقا ، ولم يدخل بها حتى مات ، فأتت عبد الله بن مسعود ، وكان قاضيا ، فاختلفوا إليه مرارا ، وقال : شهرا ، فقال : إن كان ولا بد فإني أفرض لها مهر نسائها ، لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث ، وعليها العدة ، إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه . فقال ناس من أشجع ، فيهم الجراح أبو سنان : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا ، في بروع بنت واشق ، وكان زوجها هلال بن مرة الأشجعي بما قضيت .

                                                                                                                                            وهذا حديث إن صح في بروع ، لم يجز خلافه .

                                                                                                                                            [ ص: 480 ] ومن طريق القياس : أن ما استقر به كمال المسمى استحق به مهر المثل في المفوضة كالدخول ، ولأن ما أوجبه عقد النكاح بالدخول أوجبه بالوفاة كالمسمى ، ولأنه أحد موجبي الدخول فوجب أن يستحق بالوفاة كالعدة .

                                                                                                                                            ودليل القول الثاني ، وهو الأصح ، إن لم يثبت حديث بروع : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أدوا العلائق ، قيل : وما العلائق ؟ قال : ما تراضى به الأهلون . فدل على أن المستحق بالعقد ما تراضى به الأهلون دون غيره .

                                                                                                                                            ومن طريق القياس : أنه فراق مفوضة قبل فرض وإصابة ، فلم يستحق به مهر كالطلاق ، ولأن الموت سبب يقع به الفرقة ، فلم يجب به المهر ، كالرضاع والردة ، ولأن من لم ينتصف صداقها بالطلاق لم يستفد بالموت جميع الصداق كالمبرئة لزوجها من صداقها ؛ لأن كل ما لم ينتصف بالطلاق لم يتكمل بالموت ، كالزيادة على مهر المثل .

                                                                                                                                            فأما حديث بروع فقد اختلف في ثبوته ، فذهب قول إلى ضعفه ، وأنه مضطرب غير ثابت من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : اضطراب طرقه ؛ لأنه روي تارة عن ناس من أشجع ، وهم مجاهيل ، وتارة عن معقل بن يسار ، وتارة عن معقل بن سنان ، وتارة عن الجراح بن سنان ، فدل اضطراب طرقه على وهائه .

                                                                                                                                            والثاني : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنكره ، وقال : حديث أعرابي يبول على عقبيه ، ولا أقبل شهادة الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            والثالث : أن الواقدي ، طعن فيه ، وقال هذا الحديث ورد إلى المدينة من أهل الكوفة ، فما عرفه أحد من علماء المدينة .

                                                                                                                                            وذهب آخرون إلى صحة الحديث ؛ لاشتهاره ، وقبول ابن مسعود له ، ووروده عن ثلاثة طرق صحيحة :

                                                                                                                                            أحدها : منصور بن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود .

                                                                                                                                            والثاني : داود بن أبي هند عن الشعبي ، عن علقمة .

                                                                                                                                            والثالث : عن خلاس ، وأبي حسان ، عن عبد الله بن عتبة .

                                                                                                                                            وليس اختلاف أسماء الراوي قدحا ؛ لأن معقل بن يسار بن سنان مشهور في الصحابة ، وهو المنسوب إليه نهر معقل بالبصرة تبركا باسمه حين اختفره زياد ؛ لأنه كان من بقايا الصحابة .

                                                                                                                                            ومن كان بهذه المنزلة في بقايا الصحابة وجمهور التابعين لم يدفع حديثه .

                                                                                                                                            [ ص: 481 ] وأما الجراح أبو سنان ، فقد شهد بذلك مع قومه عند عبد الله بن مسعود في قصة مشهورة . فما رد ولا ردوا .

                                                                                                                                            وأما إنكار علي رضوان الله عليه فقد كان له في قبول الحديث رأي أن يستحلف المحدث ، ولا يقبل حديثه إلا بعد يمينه ، وقال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استحلفته إلا أبو بكر ، وصدق أبو بكر .

                                                                                                                                            وهذا مذهب لا يقول به الفقهاء .

                                                                                                                                            وأما الواقدي ، فلم يقدح فيه إلا بأنه ورد من الكوفة ، فلم يعرفه علماء المدينة ، وهذا ليس بقدح ؛ لأنها من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبائل التي انتشر أهلها فصاروا إلى الكوفة فرووه بها ثم نقل إلى المدينة ، ومثل هذا كثير في الحديث ، فإن كان هذا الحديث غير صحيح ، فالمهر على قولين .

                                                                                                                                            وإن صح فقد اختلف أصحابنا .

                                                                                                                                            فذهب أبو حامد المروزي وجمهور البصريين إلى وجوب المهر قولا واحدا ، وهو الظاهر من كلام الشافعي .

                                                                                                                                            وذهب أبو علي بن أبي هريرة وجمهور البغداديين إلى أن وجوب المهر مع صحته على قولين ؛ لأنه قضية في عين يجوز أن يكون وليها فوض نكاحها ، فلم يصح التفويض ، أو تكون مفوضة المهر دون البضع ، فإن فرض لها مهر مجهول فلاحتماله مع الصحة كان على قولين .

                                                                                                                                            وأما اعتبار الموت بالدخول : ففي الدخول إتلاف يجب به الغرم بخلاف الموت .

                                                                                                                                            وأما اعتبار التفويض بالمسمى : فالمسمى يجب بالطلاق نصفه فكمل بالموت . والمفوضة لم يجب لها بالطلاق نصفه ، فلم يكمل لها بالموت جميعه .

                                                                                                                                            وأما اعتبار المهر بالعدة : فقد تجب العدة بإصابة السفيه ، وإن لم يجب عليه مهر ، فكذلك الموت في المفوضة .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا ، فلا فرق بين أن تكون الزوجة مسلمة ، أو ذمية ، في أن المهر إن وجب للمسلمة ، وجب للذمية . وإن سقط للمسلمة سقط للذمية .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : أوجب المهر للمسلمة ، وأسقطه للذمية ، وجعل ذلك مبنيا على أصله في أن ثبوت المهر في النكاح حق لله تعالى ، وأهل الذمة لا يؤاخذون بحقوق الله ، ويؤاخذ بها المسلمون ، فلذلك سقط مهر الذمية ، لسقوطه من العقد ، ووجب مهر المسلمة لوجوبه في العقد .

                                                                                                                                            وهذا فاسد ، بل المهر من حقوق الآدميين المحضة كالثمن في البيع ، والأجرة في الإجارة لاستحقاقه بالطلب وسقوطه بالعفو .

                                                                                                                                            [ ص: 482 ] ولأنه لما كان استدامة ثبوته من حقوق الآدميين وجب أن يكون ابتداء ثبوته من حقوق الآدميين كسائر حقوق الآدميين طردا ، وكسائر حقوق الله عكسا ، ولأنه لو كان المهر من حقوق الله تعالى في النكاح كالولي والشاهدين لبطل النكاح بترك المهر ، كما بطل بترك الولي والشاهدين ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية