الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            65 - الاحتفال بالأطفال

            بسم الله الرحمن الرحيم

            مسألة : اختلف في الأطفال ، هل يفتنون في قبورهم ويسألهم منكر ونكير أو لا ؟ على قولين شهيرين حكاهما ابن القيم في " كتاب الروح " عن أصحابه الحنابلة ورأيتهما أيضا للحنفية وللمالكية ، ويخرجان من كلام أصحابنا الشافعية ، أحدهما : أنهم لا يسألون ، وبه جزم النسفي من الحنفية ، وهو مقتضى كلام ابن الصلاح ، والنووي ، وابن الرفعة ، والسبكي ، وصرح به الزركشي ، وأفتى به الحافظ ابن حجر . والثاني : أنهم يسألون ، رويناه عن الضحاك من التابعين ، وجزم به من الحنفية البزازي ، والبيكساري ، والشيخ أكمل الدين ، وهو مقتضى كلام ابن فورك ، والمتولي ، وابن يونس من أصحابنا ، ونقله الشيخ سعد الدين التفتازاني ، عن أبي شجاع ، وجزم به من المالكية القرطبي في " التذكرة " ، والفاكهاني ، وابن ناجي ، والأقفهسي ، وصححه صاحب " المصباح " في علم الكلام .

            ذكر نقول القول الأول : قال النسفي في بحر الكلام : الأنبياء وأطفال المؤمنين ليس عليهم حساب ، ولا عذاب القبر ، ولا سؤال منكر ونكير .

            وقال النووي في " الروضة " من زوائده ، وفي " شرح المهذب " : إنما هو في حق الميت المكلف ، أما الصبي ونحوه فلا يلقن ، قال الزركشي في " الخادم " : هذا تابع فيه ابن الصلاح ، فإنه قال : لا أصل لتلقينه - يعني لأنه لا يفتن في قبره - وقال في موضع آخر في " الخادم " : ما قاله ابن الصلاح والنووي مبني على أنه لا يسأل في قبره . انتهى .

            وقد تابعهما على ذلك ابن الرفعة في " الكفاية " ، والسبكي في " شرح المنهاج " ، وسئل الحافظ ابن حجر عن الأطفال هل يسألون ؟ فأجاب بأن الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون مكلفا .

            [ ص: 213 ] ذكر نقول القول الثاني : أخرج ابن جرير في تفسيره عن جويبر قال : مات ابن للضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام ، فقال : إذا وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه ، وحل عقده ، فإن ابني مجلس ومسئول ، فقلت : عم يسأل ؟ قال : عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم .

            وقال البزازي من الحنفية في فتاويه : السؤال لكل ذي روح حتى الصبي ، والله تعالى يلهمه ، وقال الزركشي في " الخادم " : قد صرح ابن يونس في " شرح التعجيز " بأنه يستحب تلقين الطفل ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لقن ابنه إبراهيم ، قال : وهذا احتج به المتولي في أصل المسألة .

            وقال السبكي في " شرح المنهاج " : إنما يلقن الميت المكلف ، أما الصبي فلا يلقن .

            وقال في " التتمة " : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحد ابنه إبراهيم لقنه ، وهذا غريب ، انتهى .

            وعبارة " التتمة " الأصل في التلقين ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن إبراهيم قال : قل الله ربي ، ورسولي أبي ، والإسلام ديني ، فقيل له : يا رسول الله ، أنت تلقنه فمن يلقننا ؟ فأنزل الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) انتهى .

            وقال الشيخ سعد الدين في " شرح العقائد " : قال أبو شجاع : إن للصبيان سؤالا .

            وقال صاحب " المصباح " : الأصح أن الأنبياء لا يسألون ، وتسأل أطفال المسلمين . وتوقف أبو حنيفة في سؤال أطفال المشركين .

            وقال القرطبي في " التذكرة " : فإن قالوا : ما حكم الصغار عندكم ؟ قلنا : هم كالبالغين ، وإن العقل يكمل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم وسعادتهم ، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه . هذا ما تقتضيه ظواهر الأخبار ، وقد جاء أن القبر ينضم عليهم كما ينضم على الكبار .

            وقد روى هناد بن السري ، عن أبي هريرة ، أنه كان يصلي على المنفوس ما عمل خطيئة قط ، فيقول : اللهم أجره من عذاب القبر ، انتهى .

            والأولون قالوا : إنما يكون السؤال لمن عقل الرسول والمرسل ، فيسأل : هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا ؟ قالوا : والجواب عن حديث أبي هريرة أنه ليس المراد فيه بعذاب القبر عقوبته ولا السؤال ، بل مجرد الألم بالغم ، والهم ، والحسرة ، والوحشة ، والضغطة التي تعم الأطفال وغيرهم ، وقد يستشهد لأصحاب القول الثاني بما أخرجه ابن شاهين في " السنة " قال : حدثنا عبد الله بن سليمان قال : ثنا عمرو بن عثمان قال : ثنا بقية قال : حدثني صفوان قال : حدثني راشد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : تعلموا حجتكم ، فإنكم مسئولون ، حتى إن كان أهل البيت من الأنصار يحضر الرجل منهم الموت فيوصونه . [ ص: 214 ] والغلام إذا عقل فيقولون له : إذا سألوك من ربك ؟ فقل : الله ربي ، وما دينك ؟ فقل : الإسلام ديني ، ومن نبيك ؟ فقل : محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما رجحت القول الأول في كتاب " شرح الصدور " ، وغيره تبعا لأهل مذهبنا ، فإن الأئمة المتأخرين منهم عليه ، والله تعالى أعلم .

            ثم رأيت في " شرح الرسالة " لأبي زيد عبد الرحمن الجزولي ما نصه : يظهر من أكثر الأحاديث أن المؤمنين يفتنون في قبورهم ، سواء كانوا مكلفين أو غير مكلفين ، ويؤخذ من بعض الأحاديث أنه إنما أراد المكلفين ، ويظهر من كلام أبي محمد هنا ومما يأتي أنه أراد المكلفين وغير المكلفين ؛ لأنه قال فيما يأتي : إنه أراد المكلفين وعافه من فتنة القبر ، وللشيوخ هنا تأويلان ، فمنهم من ترك الكتاب على ظاهره ، ومنهم من قيده فقال : يريد المكلفين ، ولكن يناقضه ما قال في الجنائز ، انتهى .

            وقال يوسف بن عمر في " شرح الرسالة " : المراد بالمؤمنين في قوله : " وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم " غير المجاهدين الشهيدين في سبيل الله وغير الصبيان على قول .

            وقال الشيخ أكمل الدين في " الإرشاد " : السؤال لكل ميت كبير أو صغير يسأل إذا غاب عن الآدميين ، وإذا مات في البحر أو أكله السبع فهو مسئول ، والأصح أن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون . ثم رأيت الحديث المشار إليه في تلقين إبراهيم أورده الأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه المسمى ب " النظامي في أصول الدين " مستدلا به على أصل السؤال ، وعبارته : اعلم أن السؤال في القبر حق ، وأنكرت المعتزلة ذلك بناء على أصلهم الواهي ، ويدل على صحة ما قلناه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره فقال : يا بني ، القلب يحزن ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، يا بني قل الله ربي ، والإسلام ديني ، ورسول الله أبي ، فبكت الصحابة ، وبكى عمر بن الخطاب بكاء ارتفع له صوته ، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر يبكي والصحابة معه ، فقال : يا عمر ، ما يبكيك ؟ فقال : يا رسول الله ، هذا ولدك ، وما بلغ الحلم ، ولا جرى عليه القلم ، ويحتاج إلى ملقن مثلك يلقنه التوحيد في مثل هذا الوقت ! فما حال عمر وقد بلغ الحلم وجرى عليه القلم ، وليس له ملقن مثلك ، أي شيء تكون صورته في مثل هذه الحالة ؟ فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكت الصحابة معه ، ونزل جبريل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائهم ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله عمر ، وما ورد عليهم من قوله عليه السلام ، فصعد جبريل ونزل وقال : ربك يقرئك السلام ويقول : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) يريد بذلك وقت الموت وعند السؤال في القبر ، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الآية ، [ ص: 215 ] فطابت الأنفس ، وسكنت القلوب ، وشكروا الله تعالى .

            ومن النقول الموافقة للقول الثاني قال شمس الدين البيكساري في " شرح عمدة النسفي " : السؤال لكل ميت صغيرا كان أو كبيرا ، وأبو حنيفة توقف في أطفال المشركين في أنهم هل يسألون ويدخلون الجنة أم لا ؟ وعند غيره يسألون . وذكر الفاكهاني في " شرح الرسالة " كلام القرطبي في أن الصغار يسألون ، ثم قال : وقال بعض المتأخرين : وليس في إحياء الأطفال خبر مقطوع به ، والعقل يجوزه ، وقال الجمال الأقفهسي في " شرح الرسالة " : ظاهر قول الرسالة : وإن المؤمنين يفتنون في قبورهم ، ويسألون إن كان المكلف وغيره يسأل ، وهو الذي يظهر من أكثر الأحاديث .

            وقال أبو القاسم بن عيسى بن ناجي في " شرح الرسالة " : ظاهر كلام الشيخ أن الصبي يفتن ، وهو كذلك قاله القرطبي في تذكرته .

            وقال أيضا في باب الدعاء للطفل والصلاة عليه عند قوله : وعافه من فتنة القبر : هذا كالنص في أن الصغير يسأله منكر ونكير .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية