الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل ومنها منزلة الذوق و " الذوق " مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر . ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن ، بل ولا في لغة العرب . قال الله تعالى وذوقوا عذاب الحريق وقال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وقال تعالى هذا فليذوقوه حميم وغساق وقال فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .

فتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس ، ليدل على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله . فأفاد الإخبار عن إذاقته : أنه واقع مباشر غير منتظر . فإن الخوف قد يتوقع ولا [ ص: 87 ] يباشر ، وأفاد الإخبار عن لباسه : أنه محيط شامل كاللباس للبدن .

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ذاق طعم الإيمان : من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا . وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا فأخبر : أن للإيمان طعما ، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب .

وقد عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إدراك حقيقة الإيمان ، والإحسان ، وحصوله للقلب ومباشرته له : بالذوق تارة ، وبالطعام والشراب تارة ، وبوجود الحلاوة تارة ، كما قال ذاق طعم الإيمان وقال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله . ومن كان يكره أن يرجع في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار .

ولما نهاهم عن الوصال قالوا : إنك تواصل ، قال : إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقى وفي لفظ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني وفي لفظ إن لي مطعما يطعمني ، وساقيا يسقيني .

وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم . ولو كان كما ظنه هذا الظان : لما كان صائما ، فضلا عن أن يكون مواصلا . ولما صح جوابه بقوله إني لست كهيئتكم فأجاب بالفرق بينه وبينهم . ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حسا ، لكان الجواب أن يقول : وأنا لست أواصل أيضا . فلما أقرهم على قولهم إنك تواصل علم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسك عن الطعام والشراب ، ويكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني ، الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي .

وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة ، حيث قال لأبي سفيان : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه ؟ فقال : لا . قال : وكذلك الإيمان ، إذا خالطت [ ص: 88 ] حلاوته بشاشة القلوب .

فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان - الذي خالطت بشاشته القلوب : لم يسخطه ذلك القلب أبدا - على أنه دعوة نبوة ورسالة ، لا دعوى ملك ورياسة .

والمقصود : أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان ، أمر يجده القلب . تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم ، وذوق حلاوة الجماع إلى إلفة النفس . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تذوقي عسيلته . ويذوق عسيلتك فللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد . ولا تزول الشبه والشكوك عن القلب إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال . فباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة . فيذوق طعمه ويجد حلاوته . والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية