الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 252 ] مسألة : وسواء فيما ذكرنا - من وجوب الجمعة - المسافر في سفره ، والعبد ، والحر ، والمقيم ، وكل من ذكرنا يكون إماما فيها ، راتبا وغير راتب ، ويصليها المسجونون ، والمختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس ، وتصلى في كل قرية صغرت أم كبرت ، كان هنالك سلطان أو لم يكن ، وإن صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعدا : جاز ذلك ؟ ورأى أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : أن لا جمعة على عبد ، ولا مسافر .

                                                                                                                                                                                          واحتج لهم من قلدهم في ذلك بآثار واهية لا تصح : أحدها مرسل ، والثاني فيه هريم وهو مجهول والثالث فيه الحكم بن عمرو ، وضرار بن عمرو ، وهما مجهولان ولا يحل الاحتجاج بمثل هذا ؟ ولو شئنا لعارضناهم بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال { بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه في سفر ، وخطبهم يتوكأ على عصا } ولكننا ولله الحمد في غنى بالصحيح عما لا يصح ؟ واحتجوا بأن { رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهر في صلاة الظهر بعرفة ، وكان يوم جمعة } قال علي : وهذه جرأة عظيمة وما روى قط أحد : أنه عليه السلام لم يجهر فيها ، والقاطع بذلك كاذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد قفا ما لا علم به ؟ وقد قال عطاء وغيره : إن وافق يوم عرفة يوم جمعة جهر الإمام ؟ قال علي : ولا خلاف في أنه عليه السلام خطب وصلى ركعتين وهذه صلاة الجمعة ، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام لم يجهر لما كان لهم في ذلك حجة أصلا ، [ ص: 253 ] لأن الجهر ليس فرضا ، ومن أسر في صلاة جهر ، أو جهر في صلاة سر ، فصلاته تامة ، لما قد ذكرنا قبل ؟ ولجأ بعضهم إلى دعوى الإجماع على ذلك وهذا مكان هان فيه الكذب على مدعيه .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال : من ادعى الإجماع كذب - : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ، ومحمد بن عبد السلام الخشني - : قال ابن وضاح : ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع - : وقال محمد بن عبد السلام الخشني : ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي - : ثم اتفق وكيع ، وعبد الرحمن كلاهما عن شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة عن أبي رافع عن أبي هريرة : أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبحرين ؟ فكتب إليهم : أن جمعوا حيثما كنتم ؟ وقال وكيع : إنه كتب .

                                                                                                                                                                                          وعن أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا أبو خالد الأحمر عن عبد الله بن يزيد قال : سألت [ ص: 254 ] سعيد بن المسيب : على من تجب الجمعة ؟ قال : على من سمع النداء

                                                                                                                                                                                          وعن القعنبي عن داود بن قيس سمعت عمرو بن شعيب وقيل له : يا أبا إبراهيم ، على من تجب الجمعة ؟ قال : على من سمع النداء فعمم سعيد ، وعمرو : كل من سمع النداء ، ولم يخصا عبدا ، ولا مسافرا ، من غيرهما .

                                                                                                                                                                                          وعن عبد الرزاق عن سعيد بن السائب بن يسار ثنا صالح بن سعد المكي أنه كان مع عمر بن عبد العزيز وهو متبد بالسويداء في إمارته على الحجاز ، فحضرت الجمعة ، فهيئوا له مجلسا من البطحاء ، ثم أذن المؤذن بالصلاة ، فخرج إليهم عمر بن عبد العزيز ، فجلس على ذلك المجلس ، ثم أذنوا أذانا آخر ، ثم خطبهم ، ثم أقيمت الصلاة ، فصلى بهم ركعتين وأعلن فيهما بالقراءة ، ثم قال لهم : إن الإمام يجمع حيثما كان .

                                                                                                                                                                                          وعن الزهري مثل ذلك ، وقال ، إذا سئل عن المسافر يدخل قرية يوم الجمعة فينزل فيها ؟ قال : إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن أبي مكين عن عكرمة قال : إذا كانوا سبعة في سفر فجمعوا - يحمد الله ويثنى عليه ويخطب في الجمعة ، والأضحى والفطر [ ص: 255 ] ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : أيما عبد كان يؤدي الخراج فعليه أن يشهد الجمعة ، فإن لم يكن عليه خراج أو شغله عمل سيده فلا جمعة عليه .

                                                                                                                                                                                          قال علي : الفرق بين عبد عليه الخراج ، وبين عبد لا خراج عليه : دعوى بلا برهان فقد ظهر كذبهم في دعوى الإجماع

                                                                                                                                                                                          فلجئوا إلى أن قالوا : روي عن علي بن أبي طالب : لا جمعة على مسافر وعن أنس : أنه كان بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يجمع .

                                                                                                                                                                                          وعن عبد الرحمن بن سمرة : أنه كان بكابل شتوة أو شتوتين فكان لا يجمع .

                                                                                                                                                                                          قال علي : حصلنا من دعوى الإجماع على ثلاثة قد خالفتموهم أيضا ; لأن عبد الرحمن ، وأنسا رضي الله عنهما كانا لا يجمعان ، وهؤلاء يقولون : يجمع المسافر مع الناس ويجزئه .

                                                                                                                                                                                          ورأى علي أن يستخلف بالناس من يصلي بضعفائهم صلاة العيد في المسجد أربع ركعات ، وهم لا يقولون : بهذا .

                                                                                                                                                                                          وهذا عمر بن الخطاب يرى الجمعة عموما قال علي : قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } - : قال علي : فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه وفعله أن صلاة الخوف ركعة ؟ وأما إمامة المسافر ، والعبد في الجمعة - : فإن أبا حنيفة ، والشافعي ، وأبا سليمان ، وأصحابهم قالوا : يجوز ذلك ، ومنع مالك من ذلك - : وهو خطأ .

                                                                                                                                                                                          أول ذلك - قوله : إن المسافر والعبد إذا حضرا الجمعة كانت لهما جمعة فما الفرق بين هذا وبين جواز إمامتهما فيها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم { وليؤمكم أكبركم } و " { يؤم القوم أقرؤهم } ؟ فلم يخص عليه السلام جمعة من غيرها ، ولا مسافرا ، ولا عبدا من حر مقيم ، ولا جاء قط عن أحد من الصحابة منع العبد من الإمامة فيهما ، بل قد صح أنه كان عبد لعثمان رضي الله عنه أسود مملوك أميرا له على الربذة يصلي خلفه أبو ذر رضي الله عنه [ ص: 256 ] وغيره من الصحابة الجمعة وغيرها ; لأن الربذة بها جمعة ؟ وأما قولنا : كان هنالك سلطان أو لم يكن - : فالحاضرون من مخالفينا موافقون لنا في ذلك إلا أبا حنيفة ، وفي هذا خلاف قديم ؟ وقد قلنا : لا يجوز تخصيص عموم أمر الله تعالى بالتجميع بغير نص جلي ولا فرق بين الإمام في الجمعة والجماعة فيها وبين الإمام في سائر الصلوات والجماعة فيها ، فمن أين وقع لهم رد الجمعة خاصة إلى السلطان دون غيرها ؟ وأما قولنا : تصلى الجمعة في أي قرية صغرت أم كبرت - : فقد صح عن علي رضي الله عنه : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ، وقد ذكرنا خلاف عمر لذلك ، وخلافهم لعلي في غير ما قصة .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : لا تكون الجمعة إلا في قرية متصلة البنيان ؟ قال علي : هذا تحديد لا دليل عليه ، وهو أيضا فاسد ، لأن ثلاثة دور قرية متصلة البنيان ، وإلا فلا بد له من تحديد العدد الذي لا يقع اسم قرية على أقل منه ، وهذا ما لا سبيل إليه .

                                                                                                                                                                                          وقال بعض الحنفيين : لو كان ذلك لكان النقل به متصلا ؟ فيقال له : نعم قد كان ذلك ، حتى قطعه المقلدون بضلالهم عن الحق ، وقد شاهدنا جزيرة " ميورقة " يجمعون في قراها ، حتى قطع ذلك بعض المقلدين لمالك ، وباء بإثم النهي عن صلاة الجمعة .

                                                                                                                                                                                          وروينا أن ابن عمر كان يمر على أهل المياه وهم يجمعون فلا ينهاهم عن ذلك .

                                                                                                                                                                                          وعن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يأمر أهل المياه أن يجمعوا ، ويأمر أهل كل [ ص: 257 ] قرية لا ينتقلون بأن يؤمر عليهم أمير يجمع بهم ؟ ويقال لهم : لو كان قولكم حقا وصوابا لجاء به النقل المتواتر ، ولما جاز أن يجهله ابن عمر ، وقبله أبوه عمر ، والزهري وغيره ، ولا حجة في قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : إن الجمعة جائزة في مسجدين فصاعدا في القرية - : فإن أصحاب أبي حنيفة حكموا عن أبي يوسف : أنها لا تجزئ الجمعة إلا في موضع واحد من المصر ، إلا أن يكون جانبان بينهما نهر ، فيجزئ أن يجمع في كل جانب منهما .

                                                                                                                                                                                          ورووا عن أبي حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يوسف أيضا : أن الجمعة تجزئ في موضعين في المصر ، ولا تجزئ في ثلاثة مواضع ؟ وكلا هذين المذهبين من السخف حيث لا نهاية له لأنه لا يعضدهما قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا إجماع ولا قياس وقد رووا عن محمد بن الحسن : أنها تجزئ في ثلاثة مواضع من المصر .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : صلى علي العيد في المصلى واستخلف من صلى بالضعفاء في المسجد ، فهما موضعان وهذا لا يقال : رأيا ؟ قلنا لهم : فقولوا : إنه لا تجزئ الجمعة إلا في المصلى .

                                                                                                                                                                                          وفي الجامع فقط ، وإلا فقد خالفتموه ، كما خالفتموه في هذا الخبر نفسه ، إذ أمر رضي الله عنه الذي استخلف أن يصلي بهم العيد أربعا - : فقلتم : هذا شاذ فيقال لكم : بل الشاذ هو الذي أجزتم ، والمعروف هو الذي أنكرتم وما جعل الله تعالى آراءكم قياسا على الأمة ، ولا عيارا في دينه وهلا قلتم ، في هذا الخبر كما تقولون في خبر المصراة وغيره : هذا اعتراض على الآية ; لأن الله تعالى عم الذين آمنوا بافتراض السعي إلى الجمعة ، فصار تخصيصه اعتراضا على القرآن بخبر شاذ غير قوي النقل في أن ذلك لا يجب إلا في مصر جامع ؟

                                                                                                                                                                                          ومنع مالك ، والشافعي : من التجميع في موضعين في المصر .

                                                                                                                                                                                          ورأينا المنتسبين إلى مالك يحدون في أن لا يكون بين الجامعين أقل من ثلاثة أميال وهذا عجب عجيب ، ولا ندري من أين جاء هذا التحديد ؟ ولا كيف دخل في [ ص: 258 ] عقل ذي عقل حتى يجعله دينا ؟ نعوذ بالله من الخذلان .

                                                                                                                                                                                          قال الله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم } فلم يقل عز وجل : في موضع ولا موضعين ولا أقل ، ولا أكثر { وما كان ربك نسيا } .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قد كان أهل العوالي يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة .

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم وقد كان أهل ذي الحليفة يجمعون معه أيضا عليه السلام ، روينا ذلك من طريق الزهري ، ولا يلزم هذا عندكم ، وقد كانوا يشهدون معه عليه السلام سائر الصلوات ، ولم يكن ذلك دليلا على أن سائر قومهم لا يصلون الجماعات في مساجدهم ، ولم يأت قط نص بأنهم كانوا لا يجمعون سائر قومهم في مساجدهم ، ولا يحدون هذا أبدا ؟ ومن البرهان القاطع على صحة قولنا : أن الله تعالى إنما افترض في القرآن السعي إلى صلاة الجمعة إذا نودي لها ، لا قبل ذلك ، وبالضرورة أن من كان على نحو نصف ميل ، أو ثلثي ميل لا يدرك الصلاة أصلا إذا راح إليها في الوقت الذي أمره الله تعالى بالرواح إليها .

                                                                                                                                                                                          فصح ضرورة أنه لا بد لكل طائفة من مسجد يجمعون فيه إذا راحوا إليه في الوقت الذي أمروا بالرواح إليه فيه أدركوا الخطبة والصلاة ، ومن قال غير هذا فقد أوجب الرواح حين ليس بواجب ، وهذا تناقض وإيجاب ما ليس عندهم واجبا .

                                                                                                                                                                                          ومن أعظم البرهان عليهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المدينة وإنما هي قرى صغار مفرقة ، بنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخلهم ، وبنو عدي بن النجار في دارهم كذلك ، وبنو مازن بن النجار كذلك ، وبنو سالم كذلك ، وبنو ساعدة كذلك ، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك ، وبنو عمرو بن عوف كذلك ، وبنو عبد الأشهل كذلك ، وسائر بطون الأنصار كذلك ، فبنى مسجده في بني مالك بن النجار ، وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة ، ولا مصر هنالك .

                                                                                                                                                                                          فبطل قول من ادعى أن لا جمعة إلا في مصر ، وهذا أمر لا يجهله أحد لا مؤمن ولا كافر ، بل هو نقل الكواف من شرق الأرض إلى غربها ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 259 ] وقول عمر بن الخطاب ، " حيثما كنتم " إباحة للتجميع في جميع المساجد ؟ وروينا عن عمرو بن دينار أنه قال : إذا كان المسجد تجمع فيه للصلاة فلتصل فيه الجمعة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : قلت لعطاء بن أبي رباح : أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون ؟ قال : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي سليمان ، وبه نأخذ ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية